البنوك المركزية والعملات الرقمية: عصر الاقتصاد الرقمي الجديد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بقلم غادي الريس، المؤسس المشارك والمدير الإداري لشركة FOO
تستعد العملات المستقرة والعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) لإحداث تحول جذري في عالم الأصول الرقمية. ومع قيام أكثر من 130 بنكًا بدراسة إصدار عملاتها الرقمية، ووصول حجم استخدام العملات المستقرة إلى حوالي 200 مليار دولار، فإننا ندخل حقبة جديدة. لقد أحدثت سرعة هذه الأصول وأمانها وفاعليتها من حيث التكلفة تغييرًا كبيرًا في مشهد المعاملات المالية والشمول المالي. ومع تزايد الاعتماد عليها، يجب أن تتطور الأطر التنظيمية وآليات التنفيذ بالتوازي لضمان الاستقرار والامتثال والاستدامة.
العملات المستقرة: جسر بين التمويل التقليدي والرقمي
تشكل العملات المستقرة نقلة نوعية في عالم الأصول الرقمية، حيث تُخفف من حدة التقلبات المرتبطة بالعملات المشفرة مثل بيتكوين وإيثريوم. من خلال ربط قيمتها بالعملات الورقية أو المعادن الثمينة، تُعد العملات المستقرة وسيلة تبادل آمنة وموثوقة.
يمكن للبنوك الآن استخدام العملات المستقرة كبديل رقمي للعملات الورقية، من خلال الاعتماد على سجل بلوكشين (Blockchain) مشترك بدلًا من الاحتفاظ بسجلات منفصلة لكل مؤسسة. وباستخدام العملات المستقرة، يمكن للبنوك تقديم حسابات توفير وإيداع رقمية، مع الحفاظ على معايير الشفافية والامتثال التنظيمي. وتلعب الجهات المصدرة المُرخصة دورًا محوريًا في تأمين احتياطيات مدعومة بأصول ملموسة، مما يُعزز بيئة مالية رقمية آمنة وفعالة.
مع ذلك، ومع توسع سوق العملات المستقرة، تصاعدت المخاوف بشأن الرقابة التنظيمية والشفافية. وتُظهر قضايا مثل جدل تيثر (Tether controversy)، حيث أُثيرت تساؤلات حول دعم الاحتياطيات والأنشطة غير القانونية، مدى أهمية اتخاذ إجراءات تنظيمية صارمة. ولكي تحقق العملات المستقرة إمكاناتها الكاملة، يجب أن تلتزم بمعايير تنظيمية قوية تضمن دعم الأصول بنسبة 1:1، وحماية المستهلك، واستقرار النظام المالي.
العملات الرقمية للبنوك المركزية: جيل جديد من النقود
بينما تُحدث العملات المستقرة تحولاً في أنظمة المدفوعات الرقمية، بدأت البنوك المركزية حول العالم بتطوير عملاتها الرقمية الخاصة (CBDCs) ، التي تعادل قيمتها النقد التقليدي. وتوفر هذه العملات وضعًا قانونيًا رسميًا يعزز ثقة المستخدمين.
تُعد العملات الرقمية للبنوك المركزية بديلاً قابلاً للبرمجة، آمنًا وفعالًا للنقد المادي، مع الحفاظ على السيادة المالية. وتسعى الحكومات لاستخدام هذه العملات في تحديث أنظمتها النقدية وتعزيز الشمول المالي والحد من المخاطر المرتبطة بالعملات الرقمية الصادرة عن القطاع الخاص.
وتنقسم العملات الرقمية للبنوك المركزية إلى ثلاث فئات رئيسية:
- العملات الرقمية للأفراد: حيث يُصدر البنك المركزي العملة الرقمية (ومحافظها) مباشرةً للمستخدمين الأفراد، مما يُتيح لهم إجراء المعاملات من دون الحاجة إلى البنوك التجارية.
- العملات الرقمية بين البنوك: وهي مُخصصة للمعاملات بين المؤسسات المالية فقط، وليست متاحة للاستخدام الفردي.
- النماذج المشتركة: يُصدر البنك المركزي العملة الرقمية، لكن الأفراد لا يستطيعون استخدامها مباشرة، بل يصلون إليها عبر البنوك التجارية. هذا النموذج يُبقي على دور البنوك في إدارة الحسابات وتنفيذ إجراءات التحقق من هوية العميل (KYC) والتقيد بقوانين مكافحة غسيل الأموال (AML).
ونظرًا للبنية التحتية الحالية والخبرة التنظيمية للبنوك التجارية، يُمثل النموذج المشترك حلاً عمليًا يجمع بين ابتكارات العملات الرقمية واستقرار النظام المالي.
التحديات التنظيمية ومتطلبات الالتزام
تبقى الرقابة التنظيمية العقبة الأساسية أمام العملات المستقرة والعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs). تدفع الحكومات والجهات المالية نحو وضع أطر تنظيمية موحدة لضمان استقرار وأمن العملات الرقمية. ومن المتوقع أن يكون وضوح الأطر التنظيمية عاملًا حاسمًا في تسريع اعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية خلال السنوات المقبلة.
ومع تطور البيئة التنظيمية، بدأت بعض الدول، مثل الإمارات العربية المتحدة، في طرح أنظمة ترخيص خاصة بمصدري العملات المستقرة. في الوقت نفسه، تدعو منظمات عالمية مثل صندوق النقد الدولي (IMF) إلى اتباع نهج تنظيمي موحد. ويُعد الالتزام باللوائح، وخاصةً معايير التحقق من هوية العميل (KYC) ومعايير مكافحة غسل الأموال (AML)، أمرًا أساسيًا للحد من المخاطر القانونية والمالية. كما أن تبني العملات الرقمية للأفراد سيعتمد على تطوير تقنيات بلوكشين جديدة تُحسّن من سرعة معالجة المعاملات وتجربة المستخدم. وفي النهاية، سيركز المستهلكون على مدى سهولة دمج العملات الرقمية في تعاملاتهم اليومية، وسيكون ذلك العامل الأهم في انتشارها على نطاق واسع.
دمج العملات الرقمية في الخدمات المالية
يُحدث اعتماد العملات المستقرة والعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) تحولاً كبيرًا في القطاع المالي، مما يتطلب من البنوك وشركات التكنولوجيا المالية والأعمال دمج حلول آمنة ومتوافقة مع اللوائح التنظيمية. وسيعتمد النجاح على نشر أنظمة قابلة للتوسع، آمنة، ومتوافقة مع القوانين، بما يقلل من الاضطرابات ويعزز كفاءة العمليات.
ومع استمرار العملات الرقمية في إعادة تشكيل القطاع المالي، ستكون الشركات والمؤسسات التي تركز على الابتكارات القائمة على الالتزام باللوائح التنظيمية والأمان وتجربة المستخدم هي الأقدر على تحقيق النجاح المستدام. التحول قد بدأ بالفعل - والوقت الآن هو الأنسب للتحرك.