الأمن السيبراني في عصر العمل عن بُعد
مقالة بقلم كمال الركاد، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة ريموت باس
ظهر مفهوم العمل عن بُعد في البداية بوصفه حلاً مؤقتاً، لكنه تخطى هذا الإطار حتى أصبح ركيزةً أساسية في مشهد الأعمال الحديث. وبات التركيز على حماية أمن البيانات ضرورةً ملحة أكثر من أي وقتٍ مضى، من خلال تصميم استراتيجيات جديدة لحماية البيانات والحرص على تنفيذها، إلى جانب تعزيز المرونة والوعي الرقمي لدى الأفراد، لمواكبة التحول المتسارع الذي أخذ يُبدد الحدود الفاصلة بين الجانبين الشخصي والمهني. وتظهر هذه المخاوف بشكلٍ ملحوظ في عالم الأعمال، حيث تؤكد 87% من الشركات عالمياً أن الهجمات السيبرانية تتصدر قائمة مخاوفها، متجاوزةً تراجع الظروف الاقتصادية ونقص المهارات.
وبالفعل، تعرضت أكثر من نصف الشركات إلى تهديداتٍ سيبرانية في الأشهر الـ 12 الماضية. وتتمثل خطورة هذه الهجمات في تداعياتها الكارثية العديدة، بما فيها انتهاك العقود والخسائر المالية الضخمة وتضرر السمعة، مما يستوجب على الشركات تخصيص جزء من مواردها المالية لاتخاذ إجراءات متينة تعزز بها أمنها السيبراني.
إن الخطوة الأولى نحو ضمان الأمن الرقمي للشركة هي زيادة وعي أفراد الفريق بهذه المسألة، مما يتيح لهم تطوير مهاراتهم الرقمية ورصد التهديدات المحتملة بصورةٍ استباقية. يلي ذلك تعزيز مرونة المنظومة الأمنية للشركة وفرقها، مع توظيف الحلول اللازمة لإدارة التهديدات والاستجابة لحالات الخطر، بما يجعل هذه المنظومة خط الدفاع الأخير ضد الهجمات السيبرانية.
ضرورة تثقيف الموظفين
يؤكد 56% من مدراء الشركات أن موظفيهم يفتقرون للمعارف الأساسية في مجال الأمن السيبراني، مما يكشف عن ضعف المنهجيات المؤسسية المتبعة في هذا الشأن. وبالتالي ينبغي على الشركات تعديل استراتيجياتها بحيث توفر برامج فعّالة لتدريب الموظفين على حماية الأمن السيبراني، ومصممة خصيصاً لتلائم الهيكل المؤسسي لكل شركة والقطاع الذي تعمل به.
كما يجب توعية الموظفين بالأساليب العديدة التي يتبعها المجرمون السيبرانيون، وكيفية الإبلاغ عن أي أنشطة مشبوهة؛ إضافةً إلى تقديم دورات تدريبية وتثقيفية منتظمة لمساعدتهم على مواكبة أحدث أساليب الهجمات السيبرانية وأفضل استراتيجيات الوقاية، وتمكينهم من استخدامها بفعالية.
ومع ذلك، لا تقتصر المرونة الرقمية على التوعية بهذه المخاطر وكيفية الاستعداد لها فحسب، بل ينبغي تزويد المؤسسات والأفراد بالأدوات اللازمة لمواجهة هذه التهديدات، مما يستوجب على الشركات ما يلي:
- وضع خطط فعّالة للاستجابة للتهديدات
- إيجاد ثقافة مؤسسية تقوم على وعي جميع الموظفين بمسؤوليتهم تجاه حماية البيانات وتزويدهم بالقدرات اللازمة لذلك.
- تشجيع الموظفين على الإبلاغ عن التهديدات التي يتعرضون لها دون خوف من اللوم أو العقاب.
مراقبة الوصول إلى البيانات: جدار الحماية الرئيسي
تستلزم حماية البيانات في بيئات العمل عن بُعد اتخاذ مجموعةٍ من التدابير الأمنية المتقدمة، بما فيها التشفير التام بين الطرفين والمصادقة ثنائية العوامل ومشاركة الملفات عن طريق المنصات الآمنة حصراً، حيث تلعب هذه التقنيات دوراً محورياً في مواجهة التهديدات وتعزيز نمو سوق الأمن السيبراني، المتوقع أن تصل قيمتها إلى 136 مليار دولار بحلول عام 2028.
كما يتعين على الشركات تطبيق مبدأ الحد الأدنى من إمكانية الوصول إلى بياناتها، والذي يتيح للموظفين الوصول فقط إلى المعلومات اللازمة لأداء مهامهم اليومية وفقاً لأدوارهم الوظيفية، مع إجراء مراجعاتٍ دورية لتعديل هذا الوصول أو إلغائه. ورغم فعالية هذه الإجراءات في تقليل حالات خرق البيانات بشكلٍ كبير، إلا أن هذه الحوادث ممكنة الوقوع، وبالتالي لا بد من وضع خطة استجابة صارمة. والمفاجئ في الأمر أن 36% من الشركات تفتقر إلى هذه الخطط، لا سيما أن مواكبة التهديدات السيبرانية المتطورة باستمرار تتطلب وضع استراتيجيةٍ متكاملة لاحتواء التهديدات وإزالتها وتحقيق التعافي، مع اختبار هذه الاستراتيجية وتحديثها بصورةٍ مستمرة.
إجراءات صارمة لضمان الامتثال وتقييم الموردين الخارجيين
يُعد الامتثال التنظيمي والقانوني من أهم الركائز المطلوبة لضمان أمن البيانات في عصر العمل عن بُعد، وهو يستوجب من المؤسسات تعديل سياساتها الداخلية باستمرار لتتوافق مع أحدث القوانين واللوائح المعنية بالبيانات، مما يساعدها على تجنّب أي تداعيات قانونية ويعزز التزامها بحماية المعلومات الحساسة.
وعلى الصعيد الخارجي، يتعين على كل مؤسسة بذل جهودٍ أكبر لتقييم الممارسات الأمنية المعتمدة لدى شركائها والموردين الذين تتعامل معهم، لا سيما أن 23% فقط من المدراء المسؤولين عن الأمن والمخاطر يولون أهميةً لمراقبة المنهجيات التي يتبعها موردوهم للحفاظ على الأمن السيبراني. ولا يمكن ضمان الحماية الكاملة لبيانات المؤسسة دون التأكد من أمان الأطراف المرتبطة بها، فاختراق نظام أحد الشركاء سيعرض المنظومة الأمنية بأكملها للخطر. ولذلك يجب إجراء دراسة شاملة للشركاء قبل التعاون معهم، مع تقييم البنية الأمنية لديهم بصورةٍ دورية.
إدارة العوامل البشرية المرتبطة بالأمان
التكنولوجيا وحدها غير قادرة على صد التهديدات السيبرانية، بل يجب أن تقترن مع كفاءة بشرية عالية في المراقبة واستراتيجية أمنية فعالة ومعتمدة على مستوى المؤسسة بأكملها. وتكشف دراسة حديثة أجرتها جامعة ستانفورد أن الأخطاء البشرية تتسبب في 88% من حالات خرق البيانات، حيث تستند هذه الهجمات إلى الهندسة الاجتماعية التي تستخدم أساليب الإقناع وتستهدف الحالة النفسية للأفراد للوصول إلى المعلومات السرية، بدلاً من التركيز على الثغرات التكنولوجية. ويتمثّل الحل الأفضل لذلك في إعداد الفريق لمواجهة هذه الهجمات وإيجاد ثقافة مؤسسية تركز في المقام الأول على الحماية الأمنية، وهنا يبرز دور الفريق الإداري في إظهار التزامهم بحماية أمن البيانات من خلال تصرفاتهم وسياساتهم، وبالتالي تشجيع باقي الموظفين على الاقتداء بهم.
وطالما أن نمط العمل عن بُعد يلامس الحياة الشخصية للموظفين، فتحقيق الأمن السيبراني لا يقتصر على الإجراءات المؤسسية فحسب، بل يجب تحفيز الموظفين لتطبيق إجراءاتٍ أمنية ورقابية مماثلة في المنزل لحماية أجهزتهم الشخصية وشبكاتهم المنزلية باعتبارها نقاطاً أمنية معرضة للاستهداف، بما يضمن مرونةً وحمايةً رقمية شاملة.
في ضوء التحول المستمر نحو بيئات العمل عن بُعد، لا بد للمؤسسات أن تعيد النظر في منهجيتها المتبعة لحماية البيانات، مع تعديلها بحيث تركز على تعزيز الوعي الرقمي والمرونة، وتضع على رأس أولوياتها تحسين جوانب الوعي والتكنولوجيا والثقافة المؤسسية والجاهزية العالية. إن الاستثمار في تطوير هذه المنهجية سيضمن للمؤسسات حماية بياناتها بالشكل الأمثل، مع تعزيز الوعي الرقمي للموظفين ومرونتهم بحيث يمكنهم التعامل بكفاءة مع الجوانب الرقمية المعقدة. فالآفاق المبشرة لمفهوم العمل عن بُعد تقدم لنا فرصةً رائعة للعمل سوياً على إيجاد بيئة رقمية آمنة ومريحة للجميع.