التقنيات الحديثة في عالم ما بعد الجائحة
بقلمِ: جاد الحاجّ، شريك، وعماد عطوي، مدير أول، وجان سلامات، مدير أول، وريازول رقيب، مستشار أول في ستراتيجي& الشرق الأوسط، وهي جزء من شبكة "بي دبليو سي"
في الوقت الذي أخذ فيه فيروس كوفيد – 19 يضرب أطنابه في شتى أصقاع الأرض ويتحول إلى وباء عالمي فتاك، وجدت الحكومات والشركات في مختلف أنحاء العالم نفسها مضطرةً بين ليلة وضحاها إلى الانطلاق في سعي محموم لتبني واعتماد مجموعة واسعة من التقنيات الناشئة بغية تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن هذه الأزمة. وذلك انطلاقًا من إدراكها العميق لأهمية هذه التقنيات في تخفيف حدة التقلبات الاقتصادية المحتملة مستقبلًا والتي قد تنجم عن هذا الوضع الطارئ الذي نشأ بغتة نتيجة للتداعيات التي فرضها تفشي الفيروس.
ونتيجة لارتبطها الوثيق بالاقتصادات العالمية، فتحت هذه التوجهات الباب أمام حكومات دول مجلس التعاون الخليجي والشركات العاملة في مجال الاتصالات والتقنيات الحديثة في المنطقة كي تقتفي أثرها، وذلك من خلال اعتماد منهج عمل متدرج وقائم على هيكلية متينة تسهم في دفع عجلة التطور لتحقيق التحول الرقمي بالسرعة الممكنة، واتخاذ الخطوات الضرورية لتحويل النظرية إلى واقع ملموس، وما يتبعه من تعزيز فرص التعاون المحتملة لبناء منظومة عمل قوية وفعالة تسهم في مساندة التحول المنشود.
يعاني اقتصاد المنطقة حاليًا من صدمةٍ مزدوجةٍ ناتجةٍ عن تفشي وباء كوفيد-19 وانخفاض أسعار النفط. إلا أن دول مجلس التعاون الخليجي كانت – قبل تعرضها لهذه الصدمة المزدوجة - جزءاً من توجه عالمي يهدف إلى تعزيز الاستثمار التقني في مجالات واعدة كالذكاء الاصطناعي والبلوك تشين والروبوتات. وقد ازدادت أهمية هذا التوجه وتسارعت الخطوات لتعزيزه مع تنامي البحث عن وسائل مناسبة لإدارة المشكلات الاقتصادية والمجتمعية الناجمة عن الجائحة. وبمجرد أن تنجح هذه الدول في التوصل إلى حلول ناجعة لمشكلاتها الحالية، ستكون بحاجة إلى إجراء تحول جوهري على صعيد إمكاناتها الرقمية بما يحقق النموّ المستدام على المدى الطويل، ويسهم في احتواء الآثار المترتبة على أية صدمات اقتصادية مستقبلية محتملة، علمًا بأن المؤسسات التي تحجم عن وضع مسألة التحول الرقمي على رأس أولوياتها، ستفقد سريعًا قدرتها على مواكبة الواقع المتغير، والتعامل مع المعطيات الناشئة، وبالتالي لن يكون لها مكان في عالم المستقبل.
وفي إطار الاستعداد لتحقيق هذا التحول الرقمي خلال السنتين المقبلتين، سيتعين على قادة المنطقة وضع منهج عمل مدروس للتعامل على حدة مع كل من التحديات التي تعترض طريقهم، مع توجيه الاهتمام المناسب نحو المتطلبات القصيرة والطويلة الأجل على حد سواء. وتشمل المتطلبات قصيرة الأجل تعزيز الاقتصاد، والتأكد من استمرارية الخدمات الحيوية، وضمان احتواء التأثيرات والتداعيات التي تفرضها الجائحة. وفي هذا الإطار يمكن أن يكون للتقنيات الرقمية دور في غاية الأهمية، في الوقت الذي سيتعين فيه على المؤسسات مراجعة استراتيجياتها الرقمية طويلة الأجل، والتأكد من توافر هيكليات الدعم اللازمة لتحقيقها.
وبالنسبة للحكومات، فإن هذا الإطار المساعد يشمل العديد من العناصر المساهمة في خلق بيئة عمل مزدهرة كالقوانين والأنظمة المرعية، والوعي الجماهيري، والتسهيلات الضريبية، وإجراءات الحوكمة. فمن ناحية السياسات والأنظمة المرعية، لابد من وجود إطار قانوني يعمل على تشجيع الابتكار، وحماية براءات الاختراع، وصون حقوق ملكية التقنيات الجديدة. أما بالنسبة لمسألة الوعي الجماهيري، فيمكن للحكومات تحقيقها من خلال الاستعانة بأساليب الدعاية والتسويق بغية نشر ثقافة التطور الرقمي، وتعزيز مستويات المعرفة المتخصصة، وتبني التقنيات الحديثة. أمّا على مستوى التسهيلات الضريبية والحوافز الأخرى مثل العقود طويلة الأجل، فستسهم في دعم إنشاء شركات التقنية الفائقة وتحفيزها بصورة كبيرة. وأخيرًا، ينبغي أن يؤدي اتباع نماذج الحوكمة والتشغيل المناسبة إلى توزيع الصلاحيات والمسؤوليات ضمن الوزارات المختلفة بما يضمن تحقيق الكفاءة في ضمان توافر الإمدادات التقنية الضرورية وإتاحتها في السوق. فضلًا عن ذلك، يمكن أن تمثل الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص أرضاً خصبة لتحقيق التطور التقني المنشود.
أمّا بالنسبة الشركات العاملة في مجالات التقنية والاتصالات، فيتعين عليها أيضًا إعادة النظر في كيفية ومدى مساهمتها في نجاح الاستراتيجية الرقمية، وهو ما يتطلب منها اتخاذ مبادرات جديدة وجريئة وتعديل الأهداف المنشودة بناءً على ذلك. حيث ستتمتع الشركات التي تتمكن من استغلال خبراتها الخاصة على الوجه الأمثل من تحقيق مزايا كبيرة، وتسلم زمام القيادة في قطاع التكنولوجيا على الصعيد الوطني.
إضافةً لذلك، سيتعين على الشركات العاملة في مجالات التقنية والاتصالات إعادة النظر في استثماراتها، وذلك من خلال توجيه مواردها الوفيرة نحو التقنيات الحديثة وحالات الاستخدام (Use Cases) التي يمكنها المساهمة في حل التحديات التي تواجه قطاعات بعينها. وقبل الانتقال لمرحلة التطوير، ينبغي على هذه الشركات إجراء تحليل كمّي وكيفي دقيق لتحديد حالات الاستخدام الواعدة من حيث العائد على الاستثمار، بالإضافة إلى ضرورة استعدادها لتفعيل حالات الاستخدام هذه على نطاق واسع بمجرد التحقق من صلاحيتها بما يشجع من اعتمادها على نطاق عريض في القطاعات المستهدفة.
وعلى الرغم مما تقدم، ستواجه الحكومة والقطاع الخاص العديد من العقبات التي ستحول دون تحقيق الأهداف المنشودة في حال عدم توافر بيئة عمل رقمية ترتكز على أرضية صلبة وتسهم في تيسير النجاح. ومن الضروري أن يستند هذا التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص إلى الرغبة المشتركة في بناء منظومة اقتصادية متكاملة ومجتمع يتمتع بالكفاءة التقنية، علمًا بأن هناك طيف واسع من المجالات التي تحتاج بشدة إلى التحديث الرقمي، وهو ما يقتضي من الأطراف المعنية من القطاعين الحكومي والخاص الإسهام بشكل فعال في هذه العملية.
ومن الأمثلة على فرص التعاون المحتملة في هذا المجال مجمعات التقنية الجديدة التي تعمل كمنصات لتبادل الأفكار وتطوير التقنيات والبرامج التجريبية ونماذج إثبات صحة المفهوم (Proofs of Concept). كما يمكن للحكومات وشركات التقنية والاتصالات التعاون مع القطاع الخاص والقيادات المجتمعية لتشكيل فرق عمل متخصصة تعمل على وضع جداول أعمال مصممة لمجمعات التقنية، وتحديد حالات الاستخدام، ومتابعة مستوى التقدم عن كثب.
وبالمثل، يمكن للقطاع الخاص التعاون بصورة فعالة ووثيقة مع المسؤولين الحكوميين للمساعدة في التغلب على المعوقات القانونية والتنظيمية، هذا فضلًا عن الانفتاح في مشاركة البيانات بين الأطراف المعنية بما يؤدي إلى تسريع وتيرة التطور التقني، شريطة اهتمام كلا الجهتين بوضع مسألة النقل الآمن للبيانات وحماية خصوصية الأفراد على رأس أولوياتها. وعليه، يمكن للأطراف المعنية الاتفاق على البنية التحتية الضرورية التي تؤدي إلى تجنب الازدواجية وتأمين تقديم الخدمات وفقًا لمعايير الكفاءة.
لقد سلطت هذه الجائحة الضوء على الأهمية البالغة لاعتماد حلول التقنية الحديثة في شتى المجالات، وعلى ضرورة تبني جميع المؤسسات لإطار رقمي متقدم لمواكبة التطورات، علمًا بأن المؤسسات الناجحة هي التي ستعتمد مقاربة منهجية للتحول الرقمي. ولتحقيق النجاح المنشود، سيتعين على الحكومات وشركات التقنية والاتصالات اتخاذ الخطوات الضرورية كل على حدةٍ ثم التعاون معًا لتأسيس منظومة عمل رقمية قوية ومتفوقة.