من يمكنه تحضير السعودية للمستقبل؟
تُعد سفانة دحلان من بين أول عشر محاميات مُنحن الإذن لممارسة القانون في المملكة العربية السعودية. وهي أيضًا رئيسة ومؤسسة "تشكيل" - وهي مؤسسة اجتماعية مقرها السعودية تقوم باحتضان وتسريع وتشجيع رواد الأعمال المبدعين.
ما يثير قلق القادة حول العالم اليوم هو التغيير فهو يحصل بوتيرة متسارعة ويطال ميادين متزايدة من الحياة وتترتّب عليه نتائج لا يمكن توقعها. ولا يبدو أن وتيرة التغيير ستتباطأ. وفي هذا الإطار تحدثنا إلى عدد من الخبراء حول وقوفنا اليوم على شفير الثورة الصناعية الرابعة. وبرأيهم أنه على غرار ما فعلته ثورات البخار والكهرباء والكومبيوتر في الماضي من تغيير في طريقة عمل المجتمعات، فإن الإنجازات في مختلف المجالات التكنولوجية والاتصالات والذكاء الاصطناعي والطاقة والروبوتات والبيانات الكبرى في العقود المقبلة سوف تحدث تغييرات جذرية في كيفية عمل المجتمعات.
قد يثير ذلك حماسة البعض ولكنه قد يشكّل تهديداً للبعض الآخر. لذلك يولي القادة اهتماماً جدّياً بكيفية إعداد المجتمع لمواكبة التغيير أو حتى الاستفادة منه. وهناك عدد قليل من القادة الذين يراهنون على قاعدة صناعية واحدة للعبور بمجتمع ما إلى العقود الأربعة التالية. لذلك فإن السؤال الكبير اليوم هو كيف نُعدّ مجتمعاً للمستقبل؟ أو من يمكنه تحضير السعودية للمستقبل؟
في الثورات الصناعية السابقة، غالباً ما استغرق بناء أنظمة التدريب ومؤسسات سوق العمل الضرورية لتطوير مهارات رئيسية جديدة على نطاق واسع، عقوداً من الزمن. غير أنه نظراً إلى وتيرة التغيير الذي تحمله الثورة الصناعية الرابعة ونطاقه، فإن ذلك لن يكون ببساطة خياراً مطروحاً. ومن دون تحرّك موجّه اليوم لإدارة عملية الانتقال القريبة المدى وبناء قوة عمل تحمل مهارات تُعدّها للمستقبل، سيكون على الحكومات أن تتكيّف مع البطالة والتفاوت الاجتماعي المتزايدين ومع شركات تتقلّص قاعدة مستهلكيها.
من السهل القول إننا بحاجة إلى تحرّك موجّه اليوم ولكن الأمر يختلف كثيراً حين يتعلق الأمر بتصميم سياسات فعّالة لتحضير الناس على نطاق واسع لمثل هذا الأمر المجهول كالمستقبل سريع التغيير. وقد صاغت السعودية رؤيا إيجابية وعملية لعام 2030 تستهدف الانتقال إلى اقتصاد المعرفة.
بعض الالتزامات التي تضمّنتها هذه الرؤيا هي:
ـ "الوصول بمساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من 40% إلى 65% مع دور أكبر للمنشآت الصغيرة والمتوسطة".
ـ "تخفيض معدل البطالة من 11.6% إلى 7%"
ـ "سنواصل الاستثمار في التعليم والتدريب وتزويد أبنائنا بالمعارف والمهارات اللازمة لوظائف المستقبل".
ولكن ليس من السهل معرفة ما هي المهارات التي ستكون مطلوبة في هذا الاقتصاد الجديد. فما نحن أكيدون منه الآن هو أن الأمور تتغيّر ولكننا لسنا متأكّدين كثيراً أي اتجاه تسلكه. ما هي المهارات المطلوبة إذاً لمساعدة الناس على مواكبة التغيير والاستفادة منه؟ ما هي مهارات المستقبل؟
تكتب اليونسكو في تقرير صادر عام 2014 بعنوان "مهارات للقطاعات الإبداعية" "تتغيّر متطلبات مكان العمل الحديث بسرعة ويحتاج أصحاب العمل اليوم إلى موظفين يجمعون بين الحساب والقراءة والكتابة والقدرة على التعلّم والمرونة الذهنية والقدرة على التعامل مع التغيير والفضول المتقدّم، أكثر مما يحتاجون إلى موظفين يملكون المعرفة المطلوبة للنجاح في الامتحانات في المواضيع الأكاديمية التقليدية.
لذلك فإن الاستثمار في "القطاع الصحيح" فقط لن يكون كافياً. فالتحدّي الحقيقي هو خلق القدرة على التعامل مع التغيير لا بل تحفيزه لدى عمال المستقبل. وهذا يقودنا إلى النظر إلى الجانب من الاقتصاد حيث التغيير يلعب دوراً مهماً وهو الصناعات الإبداعية.
وتعني "الصناعات الإبداعية" جميع المهن التي يسعى فيها الناس إلى حلول عبر البحث عن أشكال جديدة. وتقسم هذه الصناعات إلى ثلاثة مجالات مهنية: الثقافية والاقتصادية والمجتمعية. وبالتالي، فإن مصممي الأزياء والمعماريين والعاملين في مجال الترفيه والإعلام إلى جانب صنّاع المسرح والكتّاب والفنّانين والرياديين الاجتماعيين هم جزء من الصناعات الإبداعية. ومعاً يشكّلون شكلاً من قطاع صغير في الاقتصاد حيث الناس معتادون على التغيير. وأكثر من ذلك، يسعون إلى التغيير ويشجعون عليه في عملهم. ولديهم مهارات وعقلية تتيح للناس أن يكونوا استباقيين وإيجابيين تجاه التغيير.
وها هي حكومات العالم تقرر تحفيز قطاعاتها الإبداعية لمجموعة منوّعة من الأسباب ثلاثة منها تستهدف بشكل مباشر مساعدة الناس على أن يكونوا أكثر استعداداً للمستقبل. ويرتبط ذلك بمجموعة من المهارات والذهنيات وخلق الوظائف والهوية.
غير أن تغذية نمو القطاع الإبداعي وتحفيزه تعتبر في جميع الأحوال، قراراً سياسياً بسيطاً ويعتمد كثيراً على ظروف محددة في المجتمع. إذاً، كيف نحفّز الصناعات الثقافية في السعودية من أجل مساعدة المجتمع في الانتقال إلى اقتصاد معرفة أكثر تنوّعاً وبالتالي أكثر استعداداً للمستقبل.
وهذه بالضبط مهمة "تشكيل" وهي مؤسسة اجتماعية تأسست عام 2011 لمساعدة رواد الأعمال الموهوبين والمبدعين الذين يفتقدون إلى المعرفة في الأمور الاستراتيجية والتشغيلية والقانونية. وقد لبّت الطلب المتزايد ونمت بسرعة لتصبح منصة على نطاق المملكة هدفها المزيد من التطوير للصناعات الإبداعية وذلك بخمسة طرق:
1 ـ بناء القدرات ضمن الصناعات الإبداعية عبر ورش عمل واستشارات وإرشاد.
2 ـ بناء المجتمعات من خلال مركز إلكتروني ومؤتمرات ومنصات الإعلام الاجتماعي.
3 ـ كتابة التقارير ـ البحث واستطلاع الصناعات الإبداعية من أجل الحصول على البيانات الأولى.
4 ـ شراكات مع الجامعات والشركات.
5 ـ التزامات اجتماعية ـ إطلاق مشاريع ذات هدف اجتماعي.
يمكن للقطاعات الإبداعية نفسها أن تشكّل إلى حد ما جسراً لباقي الاقتصاد والمجتمع لكي يتعامل مع التغييرات الأكبر التي ستشهدها العقود المقبلة. ومن خلال مشاركة المهارات والذهنيات وخلق وظائف جديدة للمستقبل والمحافظة على هويتنا، يمكننا أن نشكّل كلّاً واحداً ونمد جسر عبور إلى المستقبل. و"تشكيل" كمنظمة بالتوازي مع مشروعها الكبير "المبادرة الوطنية السعودية للإبداع" يشكلان جسراً بين الحكومة والجامعات والشركات والأفراد من جهة والقطاع الإبداعي من جهة أخرى، وجسراً بين الشباب السعودي وأصحاب المواهب من جهة والنمو المستقبلي عبر بناء القدرات والانفتاح الدولي من جهة أخرى.
وأًصبحت "المبادرة الوطنية السعودية للإبداع" منذ ذلك الوقت منصة متصّلة دولياً تقيم شراكات مع معاهد تعليمية حول العالم لتنفيذ لائحة طويلة من المشاريع والفعاليات في السعودية التي تشكّل الشبكة والبيانات والبيئة الحاضنة للريادة.
وتكمن قوة "تشكيل" في أنها تعرف كيف تخلق هيكلاً للقطاع الإبداعي الذي يُكتب له النجاح. والآن من خلال تجربة كيفية إشراك المجتمع الإبداعي، يمكنها أن تؤسس هيكلاً للحكومات المحلية والوطنية. وتستطيع "تشكيل" ذلك لأنها تعرف المجتمع الإبداعي جيداً وكل ما يحتاجه ولديها الخبرة اللازمة لتطوير آلية من شأنها أن تغيّر القطاع الإبداعي من خلال إشراكه.
والهدف من ذلك أن يساعد القطاع الإبداعي، السعودية في جذب المواهب وخلق الوظائف وإرساء هوية صلبة وذلك من أجل تحقيق الازدهار في السنوات الخمسين المقبلة. فما هو على المحك الآن، هو نجاح بلدنا الحبيب لذلك فمن الملحّ أن نبدأ ببناء الهيكليات والمعرفة وتمكين الناس، لنكون مستعدين للمستقبل. ولدى القطاع الإبداعي دور رئيسي يقوم به في هذا السياق. لذلك فلنقدم له الإمكانيّات اللازمة لفعل ذلك.
وكما جاء في رؤية 2030: "حيث أن تحديات ومتغيرات اليوم تتطلب أدواراً جديدة، فإن ثقتنا كبيرة في إمكاناتنا وإدراكنا للمسؤوليات الملقاة على عواتقنا جميعاً وقدرتنا على تحقيق إنجازات مميّزة لوطننا ولمجتمعنا ولأسرنا ولأنفسنا".