الشرق الأوسط يسير بخطى بطيئة نحو الثورة الصناعية الرابعة
سوزان السيّد زميلة في برنامج السياسة من غوغل لدى "ومضة" وباحثة مستقلة تركّز بشكل خاص على الثورة الصناعية الرابعة ومستقبل الوظائف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. عملت سابقاً كمستشارة استراتيجية في مجلس التعاون الخليجي ولندن.
لا يكاد يمرّ تقرير واحد حول الشرق الأوسط من دون الإشارة إلى أن "طفرة الشباب" نعمة على المنطقة ولكنها تتحوّل إلى نقمة مع بلوغ البطالة 21% وهو أعلى مستوى في العالم. غير أنه قبل البدء بتوجيه أصابع الإتهام وإلقاء اللوم على تلك المؤسسات أو تانك الأنظمة، علينا أن نفهم أنها جميعاً مترابطة، وأن الوضع معقّد من دون وجود سبب شامل واحد.
عام 2016، طرح المنتدى الاقتصادي العالمي "الثورة الصناعية الرابعة" وهو مفهوم أطلقه كلاوس شواب، المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى. يختصر المفهوم التأثير المجتمعي والسياسي والاقتصادي للتكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات وإنترنت الأشياء.
ومع تعزز الدور الذي تلعبه الأتمتة والذكاء الاصطناعي في حياتنا ومع اتخاذ الدول المتطوّرة زمام القيادة في تحديد الاتجاهات الناشئة، فإن السؤال الرئيسي الذي يفرض نفسه هو كيف يمكن للشرق الأوسط ألا يسعى بعد الآن إلى مجاراة باقي العالم وأن يصبح جزءاً من الدول التي تقود الدفّة من خلال تعزيز البحث والتطوير.
تكتسب الثورة الصناعية الرابعة جاذبية إضافة إلى "اقتصاد المعرفة" الذي يتم الترويج له ضمن الرؤى التي تتبناها الحكومات الإقليمية للسنوات المقبلة حتى عام 2030. ومع تزايد التواصل والوصول إلى المعلومات والأنظمة المختلفة، يصبح العالم أكثر اتصالاً والصناعات والأسواق أكثر مترابطاً.
يطرح الشرق الأوسط نفسه على أنه سوق مليئة بالفرص للشركات العالمية والمستثمرين العالميين بفضل سكانه وشبابه البارعين بالتكنولوجيا. وينعكس ذلك من خلال بروز ريادة الأعمال التقنية وطلاب العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات المتخرجين من الجامعات. ورغم أن ذلك يبدو واعداً إلاّ أنه يترافق مع غياب للدعم الأساسي للبحث والتطوير والابتكار الذي من شأنه دفع الشرق الأوسط إلى الواجهة.
تحذر الثورة الصناعية الرابعة الدول والمعنيين مسبقاً من زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات. والهدف من ذلك هو استخدام العقل البشري في أنشطة أكثر إبداعاً بدلاً من النشاطات الروتينية المتكررة.
يبدو ذلك واضحاً حتى الآن في حياتنا اليوم مع أمثلة مثل الدفع الذاتي عند الخروج من المتاجر الكبرى وروبوتات الدردشة وخدمة المستهلك المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. ولكن معظم هذه الخدمات مستوردة وثمة فجوة كبيرة في إنتاج البحث والابتكار في الشرق الأوسط وتصديره. وأظهرت دراسة أجرتها "استراتيجي آند "Strategy& أن الإنفاق على البحث والتطوير في الإمارات والسعودية يبلغ 0.9% و0.8% على التوالي من الناتج المحلي في البلدين. أما في مصر فتبلغ النسبة 0.7% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي. وفي المقلب الآخر، تنفق دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الولايات المتحدة وألمانيا ما معدله 2.5% من نواتجها المحلية الإجمالية على البحث والتطوير.
وتشدد الدراسة على أهمية زيادة الإنفاق على البحث والتطوير من أجل تعزيز الناتج المحلي الإجمالي ولا يمكن تحقيق ذلك سوى من خلال وضع الأسس المناسبة للشركات والمبتكرين والباحثين.
الحاجة إلى بيئات حاضنة محلية المنشأ للبحث والتطوير
وسط خطط اقتصادية تسلّط الضوء على اقتصاد المعرفة، ثمة مكوّن واحد ناقص وهو البحث والتطوير على الساحة المحلية. ويفتقد النظام التعليمي في المنطقة إلى البنى التحتية والاندفاع والمواهب المطلوبة لتغذية البحث والتطوير محلياً. وبدلاً من ذلك نجد المنطقة تستورد معظم هذه الأمور من الخارج بكلفة عالية من دون انتقال الكثير من المعرفة إلى السكان المحليين.
تعتبر المنطقة بالنسبة إلى الشركات الدولية مركزاً للمبيعات والتسويق، وهي تميل بذلك لأن تكون تابعة للتوجّهات السائدة بدلاً من قيادة الدفة. ويمكن لمس ذلك أيضاً على الساحة الأكاديمية حيث لا تصنّف المنطقة بين الوجهات العالمية للابتكار والبحث. وأحد الأسباب المعروفة لذلك، غياب البيئة الحاضنة للبحث والتطوير ليس في الجامعات فحسب بل في المجتمع ككل. وبينما تركز الثورة الصناعية الرابعة على الابتكار في عدد من المجالات المختلفة، تحتاج الساحة الأكاديمية في المنطقة إلى اللحاق بالركب.
يمكن للجامعات أن تقوم بدور رئيسي في البيئة الحاضنة لمنطقة تركّز على اقتصاد المعرفة لأنها من الساحات القليلة التي تجمع طائفة من المهارات تحت سقف واحد بهدف واحد هو التحليل والابتكار.
غير أنّه في ظل التمويل المحدود المخصص للبحث والموجّه للجامعات والباحثين في الدكتوراه والأكاديميين، تسود بيئة صعبة لإنتاج المعرفة والبحث والتطوير. ففي الشرق الأوسط، يركز عدد من الدول إنفاقها على المرافق والبنية التحتية المادية بدلاً من منح الأولوية لإجراء الأبحاث. وبالتالي، من أجل تنويع الاقتصاد وتخصيص الثورة الصناعية الرابعة بشكل يلبّي احتياجات المنطقة، يجب تحويل الإنفاق إلى دعم البيئة الحاضنة للبحث والتطوير.
من شأن ذلك أن يحفّز الأفراد على البحث العملي الذي يمكنه مواجهة بعض التحديات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة أو أن يقود إلى ابتكارات محلية المنشأ ومتجذرة في المنطقة. وبالفعل، يحول الافتقار إلى البحث والتطوير دون تأسيس العديد من الشركات الناشئة وجوداً لها في المنطقة لأنها غير مجهزة بالبيئة المناسب للابتكار والاختبار. وصحيح أن العديد من الشركات الناشئة المحلية مثل "ميديكوس إي آي" Medicus AI تأسست في المنطقة، إلاّ أنّها انتقلت في نهاية المطاف إلى بيئات حاضنة ناشئة أو متطورة حيث الوصول أفضل إلى البحث والتطوير وحيث اللوائح التنظيمية أكثر تطوراً.
الحاجة إلى سياسات واضحة وذات أولويات محددة للرؤى المكلفة
على مدى العقد الماضي تقريباً، ساد اتجاه لوضع رؤى مكلفة وطموحة في المنطقة وعُهد بتطوير هذه الرؤى إلى شركات استشارات إدارية. تدعم هذه الرؤى اقتصاد المعرفة وتنوي مواصلة تنمية المنطقة لجعلها أكثر مواتاة للاستثمار الأجنبي المباشر وتقليل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتكررة التي تواجه المنطقة العربية. وعلى وجه التحديد، تدعم جميع الرؤى تشجيع الابتكار وريادة الأعمال مع التركيز على أن الشباب هم رواد التقدم نحو الثورة الصناعية الرابعة.
ومن شأن تضمين البحث والتطوير في الرؤى الخاصة بكل بلد، أن يشكل جانباً حاسماً والأمر نفسه ينسحب على جعل البحث والتطوير موازياً للأولويات الاقتصادية المبنية على سياسات واضحة. وقد لاحظت الدراسة الحديثة التي أجرتها شركة "استراتيجي آند" عدم وجود هيكل وإطار عمل حكومي للبحث والتطوير في المنطقة لا سيما في دول مجلس التعاون الخليجي.
ومن أجل زيادة مساهمة الشركات الناشئة، سيحتاج القطاع الخاص والأفراد الآخرون في المجتمع، إلى بنية حكومية صلبة تتضمن سياسات واضحة لمجالات البحث وتمويل كافٍ وتواصل منسّق بين مختلف المعنيين وبالطبع تواصل واضح مع الجمهور.
على سبيل المثال، وضعت الحكومة الفيدرالية "استراتيجيا التكنولوجيا المتقدمة" سلطت فيها الضوء على العديد من مكوّنات البحث والتطوير في ألمانيا. وشمل ذلك المواضيع ذات الصلة المطلوبة من التعليم والابتكار والتكنولوجيا. وأطلقت الاستراتيجيا في العام 2006 وتم تحديثها في العام 2014 على أن تستمر حتى عام 2021 بجهود مشتركة من جميع الوزارات. وقد حفّز ذلك استثمارات من الحكومة الفيدرالية بلغت 27 مليار يورو.
ولكن دول الشرق الأوسط تحتاج إلى بعض الوقت للوصول إلى تقدّم ألمانيا ونجاحها، نظراً لوجود أطراف مجزأة وأصحاب مصلحة منعزلين عن بعضهم البعض في البيئة الحاضنة. ومع ذلك، ثمة حاجة في الوقت نفسه إلى إعادة النظر في الأساسيات مثل نظام التعليم وتغيير العقلية. ويعني جزء كبير من ذلك أنه يجب إجراء إعادة تثقيف شاملة وعميقة للمجتمع.
على سبيل المثال، تشير وزارة التجارة والاستثمار في مصر، إلى أنّ العديد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ابتعدت عن الرقمنة نظراً إلى عدم توقعها أية منافع منها لا بل اعتبارها مكلفة.
ولكن يمكن إدخال شركات دولية في البيئة الحاضنة مثل شركة "سيمنز" Siemens من أجل إشراك المجتمع عبر نقل المعرفة. وهو ما يقودنا إلى المشكلة ذاتها للتكاليف المرتفعة لاستيراد المعرفة وغياب الثورة الصناعية الرابعة المخصصة حسب حاجات البلد أو المنطقة.
لا يزال أمام القطاعين العام والخاص في معظم أنحاء المنطقة طريق طويلة قبل الوصول إلى الثورة الصناعية الرابعة، إذ ما زالت حالياً في المراحل الأولى إلى المتوسطة من الثورة الصناعية الثالثة ومن مسيرة التقدم نحو الرقمنة. وبالتالي، فإن العديد من تلك الرؤى المكلفة تتطلب خطة تنسيق وتواصل قوية لضمان مشاركة الجميع في المجتمع وأن تستند إلى احتياجات جميع القطاعات وأولوياتها.
قد تبدو الثورة الصناعية الرابعة كلمة رنّانة تستخدمها النخب، ولكنها في الواقع ستؤثر على بقية السكان عاجلاً أم آجلاً ولن تكون منطقتنا في منأى عنها.
ومع الطفرة الشبابية التي لا تبدو أنها ستتباطأ في أي وقت قريب ومع تزايد الطلب على التقدم في معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية مثل فرص العمل أو تحسين الأنظمة الصحية أو التعليمية، فمن الأهمية بمكان البدء في إجراء حوارات مثمرة ينتج عنها تحركات على الأرض.