ماذا تتعلم منظومة الابتكار الاجتماعي من قطاع التكنولوجيا في لبنان؟ [رأي]
أصبحت ريادة الأعمال الاجتماعية تمثّل بوتيرة متصاعدة مفتاح التنمية المستدامة في مختلف السياقات على الصعيد العالمي. وفي الوقت الذي تهدف الدول المتقدمة إلى زيادة المنافع الاجتماعية والبيئية الإيجابية للشركات المنتجة اقتصادياً، تسعى الدول النامية إلى زيادة المنافع الاقتصادية للمنظمات الاجتماعية والبيئية.
أما لبنان فهو حالة استثنائية، إذ يحفل بالكثير من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية، لكنه يضم في الوقت نفسه العناصر الضرورية لبناء منظومة ريادة الأعمال: مجتمع مدني مزدهر، مستثمرين من قطاع المغتربين الكبير والمزدهر، اهتمام واسع بالاستثمار في مجال الابتكار، ومنظمات دولية تدعم كلاً من القطاعين العام والمدني.
شهدنا في السنوات القليلة الماضية في لبنان، اهتماماً متزايداً بريادة الأعمال الاجتماعية، أدى تدريجياً إلى تشكيل ملامح المنظومة الحاضنة لها. بيد أنه ينبغي للجهات المعنية أن تدرك العملية التي تحكم بناء منظومة سليمة، وأن تكون على حذر من المخاطر التي قد تلوح في الأفق.
على الصعيد الوطني، نرى بعض الجهود المبذولة لوضع إطار مشترك من أجل "تنظيم" ريادة الأعمال والابتكار الاجتماعي. ويُعتبر هذا الإطار عنصراً بالغ الأهمية لنجاح وازدهار المشاريع الاجتماعية وتجنب تلفيق تهم الفساد كما في القطاع الثالث. إن ريادة الأعمال الاجتماعية ليست قطاعًا ناشاطًا أو نوعاً من المشاريع؛ إنها تتجاوز التعريف البسيط أو الشكل القانوني بأشواط، مما يجعل حدّها في إطار معين أمراً بالغ الصعوبة. ولكن قد يساعد في ذلك وضع النظم واللوائح، وتعيين هيئة مخصصة للتنسيق بين مختلف الجهات المعنية والعناصر المُشكّلة للمنظومة. وقد بدأ بالفعل الحوار بشأن هذا الموضوع. واستناداً إلى الأعمال السابقة التي هدفت إلى إنماء قطاع الابتكار التكنولوجي في لبنان، هل يوجد أي دروس مستفادة يمكن تطبيقها على قطاع الابتكار الاجتماعي؟
فيما يلي خمس ملاحظات وتوصيات حول العقبات التي قد يواجهها القطاع ليتم تجنبها.
-
إشراك رواد الأعمال الاجتماعية
تتولى الجهات المعنية قيادة معظم المبادرات حتى وقتنا الحاضر، وتشمل هذه الجهات: الفرق الاستشارية، والجهات المانحة الدولية، ومنظمات الدعم المحلية والدولية؛ لكن لا يشارك في الحوار سوى القليل من رواد الأعمال الاجتماعية. إن هذا النهج التنازلي غير التنظيمي محكوم عليه بالفشل. ووفقاً لما ذكره فيليب أورسفالد - الباحث المرموق والمؤلف ومؤسس شبكة أبحاث "جلوبال إنتربرونورشيب ريسيرتش نيتوورك Global Entrepreneurship Research Network (GERN" - ينبغي لصانعي السياسات الإصغاء جيداً لما يقوله رواد الأعمال بشأن احتياجاتهم والتحديات التي تواجههم. يجب أن يكون رواد الأعمال الاجتماعية في صميم المناقشات وأن يديروا هذا الحوار. وهذا بمثابة نداء عمل لرواد الأعمال الاجتماعية - فعلى رواد الأعمال الاضطلاع بمسؤولياتهم وتولي زمام المبادرة في هذه الجهود، رغم انشغالهم الكبير بتأمين التمويل أو خدمة مجموعاتهم المستهدفة الضعيفة أو السعي للابتكار أو التوسع والوصول إلى المستوى المطلوب أو خفض التكلفة أو زيادة التأثير. وهو نداء أيضاً إلى بقية الأطراف الفاعلة في المنظومة المحتضنة لريادة الأعمال لضمان سماع أصواتهم والتأكد من أن العملية تشمل كافة وجهات النظر.
-
التعاريف المتضاربة
يقودنا ذلك إلى العقبة الثانية التي ينبغي تجنبها؛ فمع تطور المحادثات بين مختلف الجهات المعنية، تتكشف لنا رؤيتان مختلفتان لريادة الأعمال الاجتماعية: إن المجتمع المدني يحتضن الجانب "الاجتماعي" من ريادة الأعمال الاجتماعية ويؤمن به إلى حد كبير، لكنه أقل حماسة بشأن العقلية "الريادية" التي تنطوي عليها، ومن ثم الترويج لنموذج ريادة أعمال اجتماعية غير ربحية. ومن جانب آخر، فإن النموذج الربحي لريادة الأعمال الاجتماعية يعتبر الخيار المفضل لمنظمات دعم الأعمال مثل حاضنات ومسرعات الأعمال التي تتعاون عادةً مع رواد الأعمال التجارية. بالنظر إلى هاتين الرؤيتين، لا ينبغي هيمنة أي منهما على الأخرى. ولتحقيق منظومة حاضنة سليمة ومتنوعة تتسم بالكفاءة، يجب أن تشمل هذه المنظومة مختلف أنواع رواد الأعمال الاجتماعية: من ريادة الأعمال الاجتماعية غير الربحية والربحية إلى الشركات التجارية الاجتماعية بالإضافة إلى الأنواع الأخرى من المنظمات الهجينة. ولا ينبغي للمنظومة الحاضنة لريادة الأعمال الاجتماعية أن تصبح رهينة لرؤية واحدة، وإلا سيكون محكوماً عليها بالفشل وستخسر جميع الأطراف.
-
المتطفلين
يأتي الخطر الثالث من الأفراد والمؤسسات الذين لا يتمتعون بسجل حافل من الإسهام في نواتج اجتماعية قابلة للقياس وبإمكانها توليد الإيرادات. ويحصل هؤلاء الأفراد والمؤسسات على الموارد المخصصة لبناء قطاع ريادة الأعمال الاجتماعية، من خلال ركوب هذه الموجة السائدة وحسب. ينبغي إذاً للجهات المموّلة الحذر عند تخصيصها مواردها المحدودة، إذ من الممكن أن تذهب نسبة كبيرة من الموارد إلى أولئك الطامعين في الاستفادة من هذه الموجة فقط وليس لديهم استراتيجية بعيدة الأمد أو تفانٍ حقيقي تجاه هذا المجال.
-
مرحلة بلورة الفكرة
من أجل استدامة مشاريع ريادة الأعمال الاجتماعية في منظومة حاضنة لا تزال في مراحلها الأولى، توجد بعض الحلقات المفقودة المتعلقة أساساً بالتمويل. يستهدف أغلبية الدعم المالي روّاد الأعمال الاجتماعية الناشئين الذين لا يزالون في مرحلة بلورة الفكرة أو في المراحل الأولى لمشاريعهم. ويأتي الجزء الأكبر من هذا الدعم المالي من المنظمات العالمية التي تقوم بتوجيه المشاريع عن طريق الشركاء المحليين والمنظمات الداعمة. وغالباً ما يؤدي ذلك إلى المنافسات بين مشاريع ريادة الأعمال الاجتماعية والتي تتكبد مئات الآلاف من الدولارات، يصل القليل منها فقط إلى رائد الأعمال. وبشكل محدد، يتم تخصيص أموال طائلة إلى مجموعة ضخمة من الجوائز الصغيرة إلى جانب سلسلة من الدورات التدريبية والتوجيه والإرشاد وورش العمل. من المهم إدماج ذلك في منظومة ريادة الأعمال الاجتماعية الناشئة من أجل رفع مستوى الوعي، واستقطاب رواد أعمال اجتماعية جدد، وتهيئة بيئة ديناميكية وابتكارية. ومع ذلك، فإن رواد الأعمال الذين ينجحون في تخطي مرحلة بلورة الفكرة يواجهون الصعوبات من أجل الحصول على الدعم في مرحلة النمو. وقد يتسبب ذلك في الانحراف بالمهمة عن مسارها السليم مع إهمال العنصر الاجتماعي للتركيز على الاستمرار المالي. تقع غالباً هذه المشكلة نتيجة لقصر نظر الجهات المموّلة التي تريد تحقيق نتائج سريعة وتفضل الكم على حساب الكيف. إن رواد الأعمال الاجتماعية الحاليين بحاجة إلى المزيد من الدعم طويل الأمد خلال المراحل المختلفة من دورة مسيرتهم العملية. وتُعد مشاريع الأعمال الخيرية أحد السبل لتحقيق ذلك. والمقصود بهذه المشاريع استخدام أو إعادة توجيه مصادر تمويل رأس المال المخاطر التقليدي من أجل تحقيق مشاريع خيرية. إننا أيضاً بحاجة إلى تزويد سلسلة توريد الاستثمار بالاستثمار في الأثر المترتب، والاستثمار في الشركات، وشبكات المستثمرين الملائكة، وسندات الأثر الاجتماعي، والابتكارات الأخرى خارج النطاق المألوف.
-
الاعتماد على الجهات المانحة
في سياق متصل، من الأهمية بمكان عدم تكرار أخطاء القطاع الثالث في الاعتماد المبالغ فيه على المساعدات الدولية. ورغم وفرة المساعدات الدولية نسبياً بالمقارنة مع وسائل التمويل الأخرى، إلا أنها تؤدي إلى التبعية وتدفعنا نحو تبني أولويات خارجية بدلاً من وضع خطة عمل وأجندة أعمال خاصة بنا. علاوة على ذلك، تتناقض المساعدات الدولية مع الفكرة الأساسية لريادة الأعمال الاجتماعية المتمثلة في الاستدامة. إلى جانب مصادر التمويل "التقليدية" المتوفرة بالنسبة لرواد الأعمال الاجتماعية، سيكون البديل إشراك المغتربين اللبنانيين. وقد بلغت التحويلات المالية من المغتربين 7.6 مليار دولار (17 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي) في عام 2016. وسيكون هذا المصدر التمويلي أساسياً بشكل أكبر. كما أنه سيخلق الإحساس بالواجب والانتماء لإعادة وصل المغتربين بوطنهم الأم، مع تزويدهم بفرص استثمارية ذات أثر اجتماعي إيجابي.
الخلاصة
لا نزال في بداية الطريق لبناء منظومة تحتضن الابتكار الاجتماعي في لبنان. أمامنا الكثير لنتعلمه من الأخطاء - والنجاحات - السابقة لمنظومة الابتكار التجاري. ويجب أن يكون في جوهر هذه العملية تصميم المنظومة وأن يتم تعزيزه من قِبل رواد الأعمال، وليس العكس. فإذا ركزنا على محركات التغيير الأساسية، سنتمكن من تحقيق نتائج جوهرية ملموسة دون إهدار الكثير من الموارد. وفي نهاية المطاف، إن الرغبة في إحداث تغيير اجتماعي إيجابي كامنة في قلب ريادة الأعمال الاجتماعية. أما إذا واصلنا العمل بنفس الطريقة، فكيف لنا إذا أن نتوقع تحقيق التغيير؟