لماذا لن ينجح الإصلاح التعليمي من دون ثورة ثقافية؟
ما الذي يعنيه أن تكون متعلماً؟ في أيامنا هذه، كل من يذهب إلى المدرسة وينال شهادة بعد قضاء عدة سنوات في الجامعة يحصل على صفة "متعلّم". ولكن تقليدياً، يأخذ التعليم منحى مختلفاً.
كما يقول روبرت فروست، "التعليم هو القدرة على الإصغاء
إلى أي شيء من دون أن تفقد أعصابك أو أن تخسر ثقتك بنفسك". أما مارك
توين فيقول إنه "الطريق من الجهل المتعجرف إلى الشك البائس".
هذان التعريفان ليسا متناقضين بل متكاملين. فالتعليم الجيد يجعلك
مرناً فكرياً، وتمامًا مثل معظم أنشطة التحسين الذاتي، هو ليس مكاناً
(شيئاً يمكن الوصول إليه أو تحقيقه) بل عملية مستمرة طول
العمر.
التعليم هو الانتقال من عدم معرفة أننا لا نعرف إلى معرفة أننا لا نعرف، من التعجرف إلى التواضع، من العقلية الضيقة والتفكير الأحادي إلى التسامح والتفكير الدقيق. وباختصار هو عملية إتقان ذاتي وتفوّق ذاتي.
لا تعكس المؤسسات التعليمية الرسمية الحديثة هذا الفهم للتعليم. ولكن الإتقان الذاتي والتفكير بالتفاصيل وتقدير الفنون لطالما كانت جزءاً لا يتجزأ من التعليم التقليدي.
يكتب محمد عطية الإبراشي في "التربية في الإسلام" أنّ "دراسة الشعر هي دراسة مباشرة للأخلاق وطريقة لنشر صفات أخلاقية حميدة"، ويضيف "درس العلماء المسلمون تأثير البحور الشعرية على أذهان الأطفال ورسّخوا صفات حميدة عبر هذه الدراسة. ومن خلال تحفيظ الشعر الأخلاقي الذي كان سهلاً وممتعاً، أعطوا الأطفال إرشادات جمالية وزرعوا في عقولهم التقدير للفنون". ويقول الشيخ حمزة يوسف، إنه حتى حين يكون المرء في القوات العثمانية الخاصة، كان عليه أن يكتب الشعر بالعربية والتركية والفارسية وكان عليه أن يحفظ القرآن غيباً.
إذاً لماذا لم أتشجع أبدًا، أنا كطالب هندسة، بأن أوازن معرفتي التحليلية بمعرفتي في الفنون؟ وكيف يتجلّى هذا الفهم في أنظمتنا الحديثة؟ الحقيقة أنه، خصوصاً في الجامعة، تُقدّم الإنسانيات والفنون كوجبات سريعة للذين يدرسون اختصاصات علمية، حيث تعد مواد أقل أهمية يحتاج الطالب فقط إلى أن ينجح فيها.
وفي مقالة بعنوان "الحاجة إلى ثورة ثقافية عربية" كتب الدكتور طارق رمضان، إن "التحرّر الحقيقي، أي السير نحو الكرامة والديمقراطية، يتطلب انتفاضة ثقافية بكل أبعادها الشعبية والفنية والفكرية والدينية". بالفعل "أي قدر من الإصلاح أو الحرية السياسية لن يجد حلاً للشعور بعدم الارتياح الذي أضعف أسس الشرق والغرب على حد سواء". وبعبارة أخرى، من دون مبادرات جدية لتحريك الفنون الأصلية ومن دون ازدهار الثقافة المحلية أبعد من البنى الفكرية، لن يكون هناك "ربيع عربي".
واليوم تتركز معظم نقاشات الإصلاح التعليمي حول إدخال تكنولوجيا جديدة إلى الصفوف الدراسية وتطوير تطبيقات تعليمية (أي إدخال عنصر المرح)، والدروس الجماعية الإلكترونية المفتوحة المصادر (MOOCs)، والتعليم التفاعلي، إلخ. ولكن هذا لا يعتبر معالجة حقيقية لمشاكل عميقة ومتشعبة نواجهها حالياً في مجتمعاتنا.
في الواقع، إن الوصول بشكل أفضل إلى أدوات التعليم قد تسوء فعلاً في وضعنا الحالي، فخذوا مثلاً الكلمات الحكيمة لديفيد أور في خطابه حول تغيير النموذج، حيث يشير إلى المحرقة النازية قائلاً إن "مدبّري الإبادة ومنفذيها كانوا ورثة Kant و Goethe. فالألمان كانوا في جميع المجالات أكثر البشر تعليماً ولكن هذا لم يشكل حاجزاً مناسباً أمام هذه الوحشية". لذلك نصل إلى إدراك جديد بأن لا التعليم ولا الثقافة سينقذاننا بل التعليم والثقافة "من نوع معيّن".
هذا الأمر حصل فعلاً. وكما أشار ديفيد أور، الأزمة البيئية التي نواجهها "ليست من عمل الجاهلين. بل هي بشكل واسع نتيجة عمل الناس الذين يحملون شهادات بكالوريوس وبكالوريوس علوم وبكالوريوس قانون وماجيستير إدارة أعمال ودكتوراه". لذلك فإن الحل لا يكمن ببساطة في تحسين أدوات التعليم بل في إعادة النظر في هدف التعليم ومرافقة أي شكل من التعليم مع "فن" يقيم توازناً معه.
يقدم مركز ساقية الصاوى الثقافي الذي أسّسه في القاهرة عام 2003 الريادي الثقافي محمد الصاوي، مثالاً ممتازاً. فهو كمركز ثقافي يستضيف ندوات وورش عمل ومعارض فنية ومعارض كتب وعروض دمى وعروض أفلام، يعتبر مساحة أو مكاناً ثالثًا بامتياز، ونقطة التقاء وتمازج بين الفنانين والمفكرين، الشباب والكبار في السن، وكما يقول الدكتور رمضان، "يدمج هذا المكان كافة القطاعات الاجتماعية وجميع الصفوف الدراسية وطرق التفكير".
ينتقي المركز الثقافي كل سنة موضوعاً رئيسياً لفعالياته يتم اختيارها من مجموعة منوعة من الآراء. وهذه وسيلة أكثر إفادة لجذب مواهب وإلهام الجمهور أثناء التحدث عن مواضيع ذات صلة وضاغطة، بدلاً من مسابقات شعبية مثل "أراب آيدول" Arab Idol أو "آرابز جوت تالنت" Arab Got Talent التي لا تتمتع بأية أصالة ثقافية من أي نوع كان. وكتب رمضان "لم تكمن ‘المشكلة العربية’ فقط في مجرد وجود ديكتاتوريات عنيفة ظهرت بعد انتهاء الاستعمار السياسي، بل كانت دائماً تكمن في استمرار النفور والشلل إن لم نقل الاستعمار الفكري المدمّر".
ومن أجل إعادة النظر في التعليم، نحتاج أولاً إلى نقل تركيز نقاشنا من تطوير أو تحسين أدوات التعليم إلى إعادة نظر شاملة في التعليم بتفاصيله الدقيقة. وثانياً نحتاج إلى رياديين في مجال الثقافة لخلق المزيد من أماكن الاجتماع غير الرسمية، مثل مركز ساقية الصاوى الثقافي، ووضع أسس أخلاقية لأنشطتهم الداخلية. ثمة الكثير من الرياديين التكنولوجيين هنا ولكن نحن بحاجة ماسة إلى مفكرين محبين للحياة قادرين على تطوير مجتمعاتهم المحلية من خلال مبادرات قيّمة تهدف بشكل رئيسي إلى إطلاق العنان للمواهب المحلية المبدعة وتشجيع التعبير الثقافي الأصلي. لذلك دعونا نبدأ.