عندما تسقط الشركات الكبرى، تبرز المشاريع الصغرى
هذا المقال منقول بتصرف عن النسخة الأصلية التي صدرت على موقع مدونة "هارفارد" للأعمال (Harvard Business Review blog) في الثامن من آذار/ مارس 2013.
عندما يموت حوتٌ، يسقط جسمه الذي يتراوح وزنه بين ثلاثين ومئة طن - في ما يُعرف بـ "سقوط الحوت" Whale fall – بصمتٍ وهدوءٍ إلى قعر المحيط حيث يصبح منبعاً لمجموعة جديدة واسعة من النباتات والحيوانات الصغرى التي قد تبقى على قيد الحياة لأكثر من خمسين عاماً. هذه النظم البيئية الجديدة بمئات الأصناف المتنوعة التي تولدها والتي تتراوح بين الأسماك الآكلة للّحم والديدان، هي أشبه بالشركات الناشئة المبتكرة – تلك "المخلوقات الجديدة" التي لم يتم استكشافها من قبل والتي اختارت أن تنمو وتزدهر في بيئة حاضنة فريدة.
تتوفر طرق كثيرة يمكن "للحيتان التجارية" الحيّة (أي الشركات الكبيرة) أن تدعم البيئات المحفزة لريادة الأعمال – عبر ضخّ رؤوس الأموال في تنمية مشاريع جديدة أو عبر شراء المنتجات المبتكرة أو المشاركة في تسويق هذه الشركات الصغيرة المفعمة بالحيوية وتمكينها من بلوغ العالم أجمع. أنا أؤمن بشدة بضرورة تكافل الشركات الكبيرة مع المشروعات الريادية التي يجب أن تتعايش جنباً إلى جنب: فلا يمكن لبيئة محفزة لريادة الأعمال أن تزدهر من دون أن تضمّ شركات كبيرة داعمة، سواء عن قصد أم من غير قصد.
ولكن، من أكبر أسرار ازدهار ريادة الأعمال في مختلف أنحاء العالم، مثل الهند وكولورادو والدنمارك، كان "سقوط الشركات الكبرى" – أي موت أو تقلص حجم هذه الشركات الكبيرة التي تغذي مخلفاتها البيئة الريادية الحاضنة. وما عليك البحث مطولاً لإيجاد أمثلة معاصرة، إذ تشهد فنلندا اليوم ازدهار ريادة الأعمال، ويعود جزء من ذلك إلى كون الشركة العملاقة "نوكيا" Nokia على وشك تسريح حوالى عشرة آلاف موظفٍ، فيما يبرز دور برنامج نوكيا للاحتضان Nokia Bridge Program الذي هو عبارة عن استراتيجية اجتماعية ذات هدفين: الأول التخفيف من حدّة تسريح العاملين، والثاني توفير الدعم لأصحاب المهارات.
المأساة نفسها تحصل في منطقة "ووترلو" الكندية فيما يتناقص زخم هواتف "بلاكبيري" BlackBerry الذكية التابعة لشركة "آر أي إم" RIM. وبذلك، فإنّ مركز أعمال "كوانتم هاب" Quantum Hub في كيتشنر، ووترلو، الذي ازدهر في البدء بفضل نجاح "آر أي إم"، بات اليوم يستفيد من تقلّبات حالة الشركة، عبر الاستفادة من آلاف العاملين المدربين الموجودين بكثرة في تلك المنطقة الصغيرة.
شهدت الهند أيضاً على قصة مشابهة في أواخر سبعينيات القرن العشرين. إذ حتى العام 1977، بقيت شركة "آي بي إم" IBM – والتي كانت في تلك الأيام المزوّد الأول للحواسيب المركزية للحكومات والشركات الكبرى والجيش – تعمل بشكلٍ حر في الهند. عندما أصدرت الحكومة الهندية قانوناً يلزم الشركات الأجنبية بنقل 60% من ملكيتها إلى أصحتب الأسهم المحليين، لم تقبل شركة "آي بي أم" بذلك بأي شكلٍ من الأشكال وأغلقت بذلك أبوابها. والنتيجة؟ ساهم آلاف المدراء التنفيذيين الهنود المدربين في "آي بي إم" في ازدهار عدد من الشركات الشابة التي تقدّم خدمات أعمال التجارية Business Process Outsourcing، حتى أنّ بعضهم أنشأوا شركات برمجيات خاصة بهم.
وبغض النظر عن كل الانتقادات التي سمعناها حول البيروقراطية التي عانت منها شركة "آي بي إم"، إلاّ أنّها لطالما اعتُبرت الأولى في التدريب على مبيع وخدمات وهندسة الحواسيب. وكما تقول إحدى شركات خدمات الحواسيب الناشئة المحلية: "قد لا تبقى "آي بي إم" هنا مطولاً لكنّ المهارات التي خلّفتها ستبقى هنا على الدوام".
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت "آي بي أم" أيضًا مشاكل مشابهة، لكن هذه المرّة في بولدر، كولورادو، وهي بيئة محفزة للريادة ونابضة بالحياة ما زالت وفية لماضيها المتزعزع والمضطرب. قامت الشركة بتسريح عدد كبير من العالمين لديها حتى عام 2010، الأمر الذي أدى إلى نشوء الكثير من الشركات في هذا الوقت. فكما أشار البعض: "إنّ تسريح موظفي "آي بي إم" البارعين في منطقة بولدر لعب دوراً بارزاً في بروز أفرادٍ أنشأوا شركاتهم الخاصة أو توظفوا في شركات ناشئة أخرى". والأمر سيان بالنسبة إلى شركة تقنيات تخزين المعلومات Storage Technology في بولدر (التي أفلست) كما جرى مع "نكتون بيلينيوم" Necton Bylinnium.
عام 2008، سرّحت شركات الخدمات المالية داخل مدينة نيويورك وحولها مئات آلاف الموظفين الذين أصبحوا عاطلين عن العمل (26 ألف موظفٍ في بنك "ليمان براذرز" Lehman Brothers وحده).
تشهد مدينة نيويورك ثورةً في ريادة الأعمال، وباتت تأوي الآن ثاني أو ثالث أكبر توزّع لرؤوس المال الاستثمارية في العالم، وهذا ما يدعيه عمدة بلومبرغ في نيويورك وعمدة منينو في بوسطن على حدّ سواء.
ويبقى أنّ "سقوط الشركات" هو عنصر بارز لنهوض المشاريع الريادية، لكن ثمة عناصر كثيرة غيره. ما الذي يحصل لبيئة ريادة الأعمال عندما تسقط الشركات الكبيرة؟
الواقع هو أنّها تتأقلم في كافة الأحيان تقريباً وتنمو في طرق مبتكرة وجديدة. أقول ذلك علماً أنّني أدرك تماماً وأتعاطف كثيراً مع ألم كل هؤلاء العاملين الذين يُرمَون خارجاً، وهي حال أشخاص كثيرين عندما تسقط الشركات الكبيرة أو يتقلّص حجمها أو تعاد هيكلتها. ولا تُحبّذ الآثار المترتبة على ذلك بالطبع ولا حتى يُشجع سقوط الشركات الكبيرة بأي شكل من الأشكال، تماماً كما وأنّ إدراك آثار تجدد النظام البيئي الإيجابية في البحر عند سقوط حوت بالطبع ليس دعوةً لقتل الحيتان. ولكن، في عالمٍ لا ينفك يزداد تعقيداً وتقلباً، من المفيد أن يسمح قادة الأعمال التجارية وصانعو السياسات للطبيعة بأن تأخذ مجراها أكثر من ذلك بقليل.