يمكن للشرق الأوسط أن يكون مهداً للابتكار
نميل نحن في الغرب إلى التفكير في الابتكار على أنه الخطوة التالية المشرقة والمقبولة عالمياً. غير أنه في الأسواق الناشئة، يمكن للنفاذ الجديد إلى تكنولوجيات موجودة أصلاً (مثل الاتصال العالي السرعة وذي نطاق التردد السريع والهواتف المحمولة والأجهزة الذكية) أن يقود إلى التفكير بشكل أساسي ومفاجئ بالمشاكل المحلية والإقليمية، ونتيجة لذلك قد تنتِج يوماً ما هذه المناطق من العالم التي تم تجاهلها، ابتكارات على مستوى عالمي.
لنأخذ أجهزة المحمول في إفريقيا، ففي أنحاء القارة ـ والأمر ينطبق على أسواق ناشئة أخرى أيضاَ ـ نجد أن ملايين الناس متعلقين بهواتفهم الخلوية. ومنذ أن لم يعد الإفريقيون يعانون من الألغام، أصبح الابتكار ممكناً. فـ"أم بيزا" M-Pesa الكينية على سبيل المثال، تسمح للزبائن بسحب المال وإيداعه عبر رسالة نصية. والشركة الآن واحدة من أكبر شركات تبادل الأموال عبر الهاتف الخلوي في العالم، حيث يمر 20% من العائد الإجمالي المحلي للبلد عبرها.
لا يتوقف النمو هنا، فمع مئات الآلاف من أبراج الخلوي التي تؤمن الاستقبال لمعظم المناطق الريفية في العالم، أجبرت شركات تزويد الاتصالات الخلوية على بناء موّلدات طاقة خاصة بها. ونتيجة لذلك، نشأت بيئات حاضنة من الرياديين الذين يستخدمون فائض الكهرباء لتزويد البلدات المحلية بالطاقة وبناء محطات شحن للتجمعات السكنية. وبفضل "الرياديين الاجتماعيين"، يستخدم الناس الذين لا يملكون قدرة كافية على التعبير، تكنولوجيا المحمول للإبلاغ عن جريمة أو حالة فساد ومحاسبة السلطات، وهو أمر كان مستحيلاً قبل بضع سنوات.
وقبل فترة طويلة من بدء الانتفاضات العربية عام 2010، استخدم رياديو الشرق الأوسط ـ المحبطون بسبب الغموض وعدم الاستقرار اليوم ـ الابتكار لمواجهة التحديات والعثور على فرص جديدة للنمو. وكما أشرت في مقالة أخيرة في مجلة هارفرد بزنس ريفيو Harvard Business Review ، يمثل العالم العربي لوحده سوقاً استهلاكياً واسعاً. لذلك فليس من المفاجئ أن تجد شركات في المنطقة وسائل مبتكرة للوصول إلى الزبائن. فمن أجل مواجهة التعقيدات التنظيمية في كل دولة عربية، ابتكرت شركة "أرامكس" Aramex، أكبر شركة لوجستيات في المنطقة، خدمة "شوب أند شيب" Shop and Ship التي تسمح للزبائن بطلب المنتجات من أي بائع تجزئة في الولايات المتحدة والصين وأخيراً في الشرق الأوسط. إنها عملية سلسة. فشركة أرامكس تتلقى البضائع التي يطلبها الزبائن في منشآتها وتهتم بكل المسائل البيروقراطية ومن ثم ترسل البضائع إلى المتسوّق مباشرة.
تقوم شركات أخرى بتجاوز العقبات بطرق مبتكرة أيضاً. فمع وجود مليوني مستخدم لبطاقات الائتمان فقط في الشرق الأوسط، والقليل من بينهم يستخدمونها على الإنترنت، ومع حوالي 60% من الطرود التي تسلّم ويدفع ثمنها بواسطة خيار الدفع عند الاستلام، فإنّ خدمات الدفع تخلق خلافات بقدر المخاوف التنظيمية. غير أن مبتكرين مثل "كاش يو" CashU قد بنوا بوابات دفع آمنة مثل بطاقات الدفع النقدي، للمشترين الذي يخشون التسوّق على الإنترنت وأجهزة المحمول.
إن حقيقة أن الأسواق الجديدة تستعمل التكنولوجيا لحل مشاكل محلية وإقليمية لم يعد أمراً مفاجئاً. غير أن ما يثير الاستفزاز، بالنسبة لي، هو أن هذه الجهود ستولّد أحياناً ابتكاراً منافساً عالمياً أيضاً. ويناقش البروفسوران في جامعة دارتموث، فيجاي جوفينداراجان وكريس تريمبل، في كتابهما الجديد حول الابتكار في الأسواق الناشئة، Reverse Innovation أي الابتكار العكسي، أنه "من السهل فهم لماذا الرجل الفقير يرغب بمنتج يستعمله الرجل الغني. ولكن لماذا يمكن لرجل غني أن يرغب بمنتج الرجل الفقير؟ والجواب هو أنه في ظل ظروف معينة، يُظهِر هذا المنتج قيمة جديدة وغير متوقعة أو أغفِل عنها منذ فترة طويلة".
ولهذا السبب أسافر في أنحاء الشرق الأوسط، وأبحث جاهداً عن ظروف وتجارب يمكن أن تعزز الابتكار على نطاق عالمي. وببساطة، فإن الشرق الأوسط، على الرغم من الغموض المخيّم عليه، مليء بالإمكانيات. وهذه منطقة بالكاد عرفت الخطوط الهاتفية، إلا أنّ نسبة استخدام الخلوي اليوم تقارب الـ200%. وحين تدخل الهواتف الذكية البخسة الثمن إلى السوق (التي يقلّ ثمنها عن 40 دولار) ـ وقد وصلت للتو إلى إفريقيا ـ فسينتج عن ذلك اعتماد مكثّف للحوسبة على المحمول. فأي درس يمكن أن تقدّمه هذه السوق للعالم عن مستقبل الابتكار في عالم المحمول؟
ثمّة فرص أخرى للابتكار أيضاً. فالموارد غير المستغلّة للمياه النظيفة في العالم تكمن تحت الصحراء المصرية الليبية، ولكن ما من طريقة مناسبة وفعّالة وغير مكلفة لنقل النفط من أجل ضخّه. ما هي ابتكارات الضخ عبر الطاقة الشمسية والزراعة الكامنة هنا؟ وماذا عن ملايين الناس الذين تواصلوا ونسّقوا عبر الهواتف الخلوية وعلى فيسبوك وتويتر خلال الانتفاضات العربية؟ لقد أخبروا قصصاً، لقد قلبوا أنظمة.. فهل ستنشأ الشبكات الاجتماعية العظيمة المستقبلية من هذه التجارب؟
في وقت ما من حياتي، لم يتخيّل أحد أنّ اليابان أو فنلندا أو كوريا ستصبح رائدة في الابتكار في مجال الأجهزة أو ألعاب الكومبيوتر. وبالفعل، لم يكن ثمّة ابتكار برمجي عالمي عظيم خارج الولايات المتحدة لسنوات طويلة. ولكن مع استمرار المنطقة في استخدام الابتكار لتجاوز المشاكل الفريدة ومع انتشار التكنولوجيات غير الباهظة الثمن، فإن عبارة "صنع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" لا تبدو بعيدة المنال.