الاتجاهات المتوقعة في عام 2023
عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا في شهر شباط/ فبراير 2022، ظل تأثيرها على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غير واضح في ذلك الوقت، ولكن بعد مرور عام تقريبًا على بداية الحرب، أصبحت آثارها واضحة الآن. وكانت السوق الأكثر تضررًا في المنطقة هي السوق المصرية، فهي أكبر مستورد للقمح في العالم، وكانت تعتمد بشدة على استيراد القمح من أوكرانيا وروسيا. وسرعان ما خفَّضت مصر قيمة عملتها، كما لا تزال تعاني منذ ذلك الحين من ارتفاع التضخم وتباطؤ النشاط الاقتصادي. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، رأينا انعكاس ذلك على البيئة الحاضنة للشركات الناشئة، مع انسحاب المستثمرين وتداول أخبار عن عمليات التسريح الجماعي وانهيار العديد من الشركات الناشئة، ولا سيما شركتي "كابيتر" و"بريمور".
ويبدو أن الخوف وعدم اليقين الذي واجهته بيئة الشركات الناشئة في بداية جائحة كوفيد-19 قد عاد مرة أخرى ليطفو على السطح، ولكن السبب هذه المرة هو الحرب الأوكرانية-الروسية، فضلا عن مشكلات سلاسل الإمداد المستمرة، مما أدى إلى هبوط الأسواق العالمية وسط ارتفاع تكاليف المعيشة وتوقعات بركود عالمي قادم.
وسيستمر مستوى الاستثمار في التباطؤ في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع انخفاض متوسط المبالغ التمويلية. ومن المُستبعد أن يستمر في عام 2023 ما شهدناه بعد الجائحة وخلال العام الماضي من انتعاش استثماري وتقييمات عالية للشركات الناشئة. فسوف يتوخى المستثمرون درجة أكبر من الحذر فيما يقدمونه من تمويلات، وسوف يتعين على الشركات الناشئة تبرير تقييماتها في كل مرحلة. ومن المرجح أن تعود تقييمات الشركات الناشئة إلى المستويات التي كانت عليها قبل الجائحة، وأما الشركات الناشئة التي تعجز عن إعادة التقويم أو اتخاذ مسار واضح لتحقيق الربح فستواجه صعوبات.
وقد جاء دخول مستثمرين عالميين - مثل شركة سيكويا كابيتال ومجموعة سوفت بنك - الشرق الأوسط، بمثابة تعبير عن ثقة هؤلاء في الشركات الناشئة في المنطقة، لكن تدني الأوضاع عالميا سوف يؤدي إلى خروجهم بدافع الخوف. وقد شهدنا تأثير ارتفاع التضخم على الاقتصاد العالمي، إذ دفع ببنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة، وبالتالي انهيار الأسواق العامة، مما أدى إلى نهاية حقبة "المال الحر". وهو ما أدى إلى تراجع قيمة كبرى الشركات الناشئة الخاصة مثل كلارنا، الشركة الناشئة الأعلى قيمة في أوروبا، وانستاكارت في الولايات المتحدة.
ورغم أن العام الماضي كان عام الطرح العام وشركات الاستحواذ لأغراض خاصة، فقد انتهى حلم الطرح العام في الغرب للشركات الناشئة في المنطقة. كما أن السقوط الحر لتقييم شركة سويفل في بورصة ناسداك سلَّط الضوءَ على مدى صعوبة ومشقة الأسواق العامة. وأما البورصات المحلية، فإن ذلك يتيح لها فرصة لفتح أبوابها أمام الشركات الناشئة، لكنها ستحتاج إلى التغلب على العديد من مشكلات السيولة والمشكلات التنظيمية حتى يتسنى إدراج الشركات الناشئة بها.
وسوف تتراجع أيضًا المكاتب العائلية الإقليمية التي احتضنت بحماس الشركات الناشئة وشركات رأس المال المغامر، لا سيما تلك المكاتب المُعرَّضة لمخاطر الأسواق العالمية. وستتحلى هذه المكاتب العائلية بمزيد من الصبر عند تقديم تمويل هذا العام، سواء عند التمويل المباشر للشركات الناشئة أو بصفتها شركاء ذوي مسؤولية محدودة في صناديق المنطقة، وسيؤدي ذلك إلى مواجهة شركات رأس المال المغامر بعض الصعوبات في جمع الأموال هذا العام. ومن المرجح أن يكون أكبر مصدر يحصل منه المستثمرون على رؤوس الأموال هو صناديق الثروة السيادية، وخاصة شركة "القابضة" (ADQ) في أبوظبي وصندوق أبوظبي للنمو (ADG)، بالإضافة إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودي. وسوف يشهد هذا العام أيضًا زيادة نشاط جهاز قطر للاستثمار في المنطقة. فبعد عدة سنوات من الأزمة الدبلوماسية، ساعد نجاح تنظيم كأس العالم على عودة قطر إلى الساحة.
وقد تنجح المملكة العربية السعودية في تفادي المجازر التي تحدث في بقية بلدان العالم. فقد استفادت المملكة من ارتفاع أسعار النفط، واستفادت بيئتها الحاضنة من مجموعة من المستثمرين الجدد في هذا المجال. وحظيت المملكة في العام الماضي بتدفق رؤوس الأموال إلى شركاتها الناشئة، مما دفع الشركات الناشئة السعودية إلى الظهور على الساحة في شتى أنحاء المنطقة. ففي العام الماضي، أجرت الشركات السعودية الناشئة 11 استحواذًا من أصل 44 استحواذًا إقليميًّا، بما في ذلك استحواذ شركة FOODICS على شركة POSRocket الأردنية واستحواذ شركة "جاهز" المُدرجة في السوق الموازية السعودية (نمو) على شركة "ذا شفز" (The Chefz) مقابل 173 مليون دولار تقريبًا، بينما استحوذت كل من PayTabs وUnifonic على شركات تركية ناشئة بعد أن خاضت جولات استثمارية كبيرة.
كما أن سياسة الخدمات المصرفية المفتوحة في المملكة العربية السعودية سوف ترتقي بقطاع التكنولوجيا المالية في المملكة إلى آفاق جديدة. وسيدفع ذلك بلدانًا أخرى في المنطقة إلى تحديث لوائحها التنظيمية الخاصة بالتكنولوجيا المالية، وسنشهد في هذا العام زيادة نشاط الهيئات التنظيمية التي تمنح تراخيص لشركات التكنولوجيا المالية. ولكن من المرجح أن تتوخى الهيئات التنظيمية مزيدًا من الحذر عندما يتعلق الأمر بالعملات المشفرة، التي ستظل على الهامش، خصوصًا بعد الانهيار الكبير في بورصة العملات المشفرة "إف تي إكس".
ولكن ستحافظ دبي على مكانتها بوصفها مركزًا عالميًّا للعملات المشفرة وتكنولوجيا الويب 3 والميتافيرس، حيث تجذب مجموعة كبيرة من الشركات الناشئة والمستثمرين في هذا المجال.
وستعتمد حالة البيئة الحاضنة للشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2023 اعتمادًا كبيرًا على ما ستؤول إليه الأمور في الاقتصاد العالمي والحرب في أوكرانيا. وستكون القدرة على الصمود أمرًا لا غنى عنه. فالمؤسسون الذين يستطيعون الإبحار بشركاتهم الناشئة إلى بر الأمان في ظل هذا المناخ الاقتصادي الصعب هم الذين سوف تتكوَّن منهم الموجة التالية من الشركات الناشئة الناجحة في المنطقة. والذين سيخرجون من هذه الأزمة سالمين هم الذين سيُسهمون بعد سنوات من الآن بالقدر الأكبر في البيئة الحاضنة في المنطقة.