التوسع بالانتقال إلى السعودية: هل هو طريق مرصوف بالذهب؟
أكَّدت المملكة العربية السعودية رغبتها في أن تصبح الوجهة الإقليمية للقطاع الرقمي بعد أن أعلنت في الشهر الماضي عن مبادرة Launch التي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار وتهدف إلى دعم بيئتها الحاضنة للشركات الناشئة وتحسين المهارات الرقمية للشباب السعودي. وذلك إضافةً إلى الصندوق التقني المشترك بين القطاعين العام والخاص بقيمة 15 مليار دولار لتطوير بنيتها التحتية الرقمية، إذ تتطلع المملكة إلى أن تصبح مقصداً لشركات تطوير شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي. ولا شك أن هذه المبادرات ستحفز البيئة الحاضنة المحلية وستجذب مزيداً من الاهتمام الدولي بالاقتصاد الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي تبلغ قيمته نحو 700 مليار دولار.
وليس الناتج المحلي الإجمالي وحده هو ما يجذب الاهتمام العالمي بالمملكة، فالمملكة تأتي في المرتبة الثالثة على مستوى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث عدد سكانها البالغ 35 مليون نسمة ثلثاهم تحت سن 35 عاماً. ونظراً إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة يقارب 20000 دولار، ويبلغ معدل انتشار الإنترنت بها نحو 96%، فإنها تُعدّ من أكثر أسواق العالم إدراراً للربح ومن أقلها ازدحاماً بالشركات في القطاع الرقمي، وتلك فرصة تحرص الحكومة على اغتنامها.
وفي محاولة لخلق مزيد من فرص العمل المحلية، أصدرت الحكومة في مطلع هذا العام مرسوماً يقضي بأن جميع الشركات الأجنبية التي ترغب في الفوز بعقود عامة يجب أن تنقل مقراتها الإقليمية إلى المملكة. وستكون لهذه السياسة تداعيات أوسع نطاقاً، لا سيما على المراكز الإقليمية الأخرى مثل دبي، وقد أحدثت تحولات ملحوظة في صفوف الشركات الدولية التي تسعى إلى الفوز بصفقات تجارية.
وقد وقّعت بالفعل 25 شركة عالمية مذكرة تفاهم مع وزارة الاستثمار السعودية لنقل مقراتها الإقليمية إلى المملكة، ومنها شركات عالمية مثل Deloitte وPwC وSchlumberger، إضافةً إلى شركات مستجدة ونشطة في مجال الاستثمار الجريء، وشركات ناشئة مثل شركة Oyo الهندية لحجز الفنادق (المدعومة من مجموعة سوفت بنك)، وصندوق 500 Startups الأمريكي لرؤوس الأموال الجريئة.
وتكشف أحدث الأرقام الصادرة عن وزارة الاستثمار السعودية عن إصدار 478 ترخيصاً لمستثمرين أجانب في الربع الأول من هذا العام، بزيادة قدرها 36% مقارنةً بالعام الماضي، وهو أكبر عدد من التراخيص الصادرة في ثلاثة أشهر منذ عام 2005. وذهبت غالبية التراخيص الصادرة إلى مشروعات التصنيع (117 ترخيصاً)، في حين حظيت شركات تجارة التجزئة والتجارة الإلكترونية بالزيادة الأكبر بوجه عام، إذ ارتفعت التراخيص الصادرة لها بنسبة 115.6% مقارنةً بنفس الربع من العام الماضي.
يقول نزار موسى، الرئيس التنفيذي لمجموعة برو بارتنر الإماراتية التي تعمل في مجال خدمات تأسيس الشركات: "في عام 2014، لم تكن [المملكة العربية السعودية] المكان «الأفضل» الذي قد تتخيل أن ترسل إليه شركة ما كبار مديريها التنفيذيين للقيام بأعمال تجارية هناك. ولكن ما حدث في العامين الماضيين هو أن الانتقال إلى الرياض لم يعد صعباً كما كان في السنوات الماضية بفضل التغييرات التي يحدثها ولي العهد في أمور كثيرة، ليس في قطاع الأعمال فحسب ولكن أيضاً في جانب أنماط الحياة".
إن التغيير الثقافي الذي أشار إليه نزار، إلى جانب الاستثمارات المتواصلة بمليارات الدولارات في مشروعات محلية مثل مشروع نيوم، يجعلان المملكة وجهةً استراتيجية للغاية تقصدها الشركات الإقليمية والعالمية التي كانت توسعاتها فيما مضى مُوجَّهةً نحو دولة الإمارات.
وفيما يخص الشركات الناشئة على وجه التحديد، لا تكمن الفرصة السعودية في سوقها الكبيرة والمربحة فحسب، بل تكمن أيضاً في تدفق رؤوس الأموال الجريئة الذي شهد طفرةً غير مسبوقة في المملكة.
"توجد استثمارات كبيرة في الشركات التقنية في المملكة مما يسمح لنا بدخول السوق في وقت لاحق من هذا العام"، هذا ما ذكره مايك ميناري، المؤسس المشارك والمدير المالي لمنصة Carasti لتأجير السيارات في الإمارات العربية المتحدة التي أغلقت جولتها التمويلية الأولى في مطلع شهر نيسان/ أبريل باستثمار من شركة Net Ventures السعودية للاستثمار الجريء وصندوق رؤى للنمو.
وأما الشركات الناشئة في دولة الإمارات فغالباً ما تنظر إلى السوق السعودية على أنها ساحة اقتصادية لاختبار القدرة التنافسية الاقتصادية للشركة الناشئة ونموذج أعمالها العام. كما أن القوة الشرائية داخل هذا البلد ذي المساحة الجغرافية الشاسعة يمكن أن تُقدِّم دَفعةً كبيرةً إلى الشركات الناشئة التي تنتقل بنجاح من بقية أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
"إذا نجحت شركتك في السعودية، فأكاد أجزم أنها ستنجح في بقية دول مجلس التعاون الخليجي"، هذا ما ذكره جاناردان دالميا، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Trukkin الناشئة التي تعمل في مجال خدمات النقل واللوجستيات السحابية، وكانت شركة Trukkin قد أقامت مقرين لها أحدهما في دبي والآخر في الرياض ولا يفصل بينهما سوى بضعة أشهر.
تأسست شركة Trukkin في عام 2017، وهي الآن تخدم أكثر من 200 عميل من الشركات عبر قواعدها الرئيسية الثلاث في الرياض والدمام وجدة، لكن عملياتها تمتد عبر مئات المواقع خارج هذه المدن. وخلال رحلتها التي امتدت لخمس سنوات، جمعت شركة Trukkin استثمارات من شركات محلية للاستثمار الجريء ومكاتب لإدارة الثروات العائلية، منها "شركة تأثير المالية" وشركة "إمكان كابيتال" ومجموعة عائلة آل ماضي، فحصلت على تمويل إجمالي قدره 10.4 مليون دولار.
ولكن لكي ينجح التوسع في السعودية، لا بد أن ينظر رواد الأعمال في عوامل مختلفة تهيمن على السوق السعودية، مثل دور الشراكات وتكلفة التأسيس وقاعدة العملاء التقليدية نسبياً.
تكاليف هامشية
إن التحديات الرئيسية التي تواجه الشركات الناشئة المتطلعة إلى التوسع في المملكة العربية السعودية تدور حول تكاليف التشغيل، والتوظيف، وامتلاك حقوق الملكية الفكرية.
أما صوفي سميث، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة نبتة الإماراتية، وهي إحدى شركات التكنولوجيا النسائية التي تعمل في مجال صحة المرأة وتقدم للنساء خدمات تشخيصية بشأن خصوبتهن وصحتهن العامة، فتقول: "أعتقد أن أكبر عائق يَحول دون دخول شركات كثيرة في الوقت الحالي إلى المملكة العربية السعودية وأنحاء أخرى من دول مجلس التعاون الخليجي، هو تكلفة تأسيس الشركات وتسجيلها وترخيصها. فتكلفة إقامة الشركة قد تكون باهظة، كما أن تكلفة تسجيل العلامات التجارية في المملكة العربية السعودية، وكذلك في دولة الإمارات، من أعلى التكاليف في العالم".
وفي الوقت الحاضر، تبلغ تكلفة الحصول على علامة تجارية في المملكة العربية السعودية نحو 2019 دولاراً أمريكياً، بما في ذلك تكلفة الإيداع والنشر والتسجيل؛ بينما انخفضت التكلفة الإجمالية في دولة الإمارات من 2504 دولارات إلى نحو 1864 دولاراً بعد التخفيض الرسمي لرسوم العلامات التجارية في العام الماضي. ولا يشمل ذلك رسوم الترجمة ورسوم مكتب الملكية الفكرية التي قد تُضيف إلى التكلفة الإجمالية مبلغاً لا يُستهان به.
ومقارنةً برسوم تسجيل العلامات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية (1225 دولاراً أمريكياً تقريباً) والمملكة المتحدة (728 دولاراً أمريكياً تقريباً)، قد تكون التكلفة في دول مجلس التعاون الخليجي باهظةً بالنسبة للشركات الناشئة التي لديها عدة اختراعات تحتاج إلى تسجيلها للحصول على الحماية، كما هو الحال مع شركة نبتة وغيرها من الشركات الناشئة التي تعتمد بشدة على التكنولوجيا.
وربما يتمثل أحد أكبر التحديات في ارتفاع أجور اليد العاملة في المملكة العربية السعودية التي ترتفع فيها أيضاً تكلفة التشغيل. ويوضح جاناردان دالميا ذلك فيقول: "تكلفة المعيشة هنا أقل من دولة الإمارات، ولكن تكلفة التشغيل والتوظيف أو اليد العاملة أكبر. وإذا أمكن تحسين هذه الأمور قليلاً، فستكون الشركات قادرة على تكوين مجموعة أكبر كثيراً من أصحاب المواهب في المملكة العربية السعودية. فلا يوجد سبب يجعل أي شركة تزيد أعداد موظفيها هنا إلى أربعة أضعاف إذا لم تكن تلك التكاليف أقل." ويرى جاناردان أن هذه الالتزامات المرتفعة والمكلفة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى عزوف أصحاب الشركات الناشئة عن المخاطرة.
ومن العوامل الحاسمة التي أدت إلى ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة هو برنامج السعودة الصارم (المُسمى برنامج نطاقات) الذي يطالب الشركات الخاصة بتعيين عدد مُحدَّد من الموظفين السعوديين. وقد تشهد نفقات تشغيل المقر الرئيسي أو المكتب الإقليمي في المملكة العربية السعودية زيادةً سريعةً نظراً إلى أن الحد الأدنى للأجور الشهرية للمواطنين السعوديين قد ارتفع في الآونة الأخيرة إلى 5300 ريال سعودي (933 دولاراً أمريكياً)، ولأن معدل السعودة المُوصى به داخل الشركات يتراوح من 15% إلى 100%.
أضف إلى ذلك أن مؤسسي الشركات سرعان ما سيشعرون بالتكاليف الإضافية الناتجة عن وصول معدل الضرائب في المملكة مؤخراً إلى 20%، وهو أمر جديد بالنسبة للشركات الناشئة الإماراتية على وجه الخصوص.
يقول نزار موسى: "قد يكون فهم الأنظمة الضريبية غير الموجودة في دولة الإمارات، ولكنها موجودة في عُمان على سبيل المثال، أحد تحديات [إقامة شركة في المملكة العربية السعودية]. ولذلك، عليك التأكد من التزامك بدفع ضريبة القيمة المضافة، ومن الواضح أن هناك المزيد من الضرائب الإقليمية مثل الزكاة أيضاً. "إنه مجرد إدراك وفهم أنه قد يتعين عليك دفع ضريبة في السعودية تبلغ بالفعل ثلاثة أضعاف سعر السوق وأنه في النهاية لا يوجد خيار آخر في ذلك".
ولكن سارع نزار إلى تسليط الضوء على أن مؤسسي الشركات الناشئة يجب أن يضعوا في اعتبارهم الإمكانات الاقتصادية الهائلة لدخول السوق السعودية الكبيرة، فقال: "أعتقد أن الشركات الناشئة يجب أن تنظر إلى إمكانات السوق جنباً إلى جنب مع التكلفة. إنه أمر جذاب للغاية أن نقول إنه لا توجد ضرائب في دولة الإمارات، أقصد ضرائب مباشرة، ولكن هناك كثير من الضرائب غير المباشرة، كما أن عدد السكان لا يزيد على عشرة ملايين شخص. ولذلك فإن النظر إلى الفرصة السوقية مقابل التكلفة أمر مهم، ويأتي بعد ذلك بالطبع الحصول على بعض الدعم على أرض الواقع".
وأضاف نزار أن المملكة، علاوةً على ذلك، تتطلع إلى مضاعفة عدد سكان الرياض بحلول عام 2030 ليتراوح إجمالي عدد سكانها من 15 إلى 20 مليون نسمة، وهو العدد الذي يبلغ حالياً 7.9 مليون نسمة. وهذا هدف مثير للجدل وطموح اقتصادياً، ولكن هذا القرار يشجع الشركات الأجنبية والمستثمرين الأجانب على المشاركة في الاقتصاد السعودي.
الدعم المحلي
يشير كلٌّ من نزار موسى ومايك ميناري إلى أن إحدى الطرق التي يستطيع بها مؤسسو الشركات الناشئة تيسير تأسيس شركاتهم وتبسيط عملية إقامة شراكات مستقبلية مع كيانات عامة محلية في المملكة هي التسجيل للحصول على تراخيص أنشطة تجارية متعددة، إن أمكن.
يقول نزار: "التراخيص التي تمنحها وزارة الاستثمار السعودية تعتمد على نشاط الشركة. فإذا كنت ترغب في العمل في مجال التكنولوجيا المالية، فهناك ترخيص لذلك، وإذا كنت تريد العمل في مجال الموارد البشرية، فهناك ترخيص آخر لذلك. ولكن دعنا نفترض أنك تحاول العمل مع مؤسسات أو صناديق أو هيئات حكومية، فحينئذ كلما كان ترخيصك له علاقة مباشرة بالنشاط، زادت فرصتك في تقديم عطاءات إلى هذه المؤسسات".
وأما الشركات المترددة بشأن الانتقال إلى المملكة العربية السعودية، فيرى نزار أن لديها أيضاً خيار "إقامة علاقة وكالة تجارية لاختبار السوق دون الحاجة إلى امتلاك 100%" من المكتب المحلي.
ولكن ربما يكون العامل الأهم الذي يجب مراعاته عند محاولة تعزيز التوسع في السعودية هو إنشاء مكتب إقليمي أو مقر رئيسي قبل أن يبدأ في كانون الثاني/يناير 2024 تنفيذ اللائحة التي تقضي بإيقاف تعاقد الجهات الحكومية مع أي شركة أجنبية لها مقر إقليمي بالمنطقة في غير السعودية. ورغم أن المتطلبات الدقيقة لهذه السياسة الجديدة لا تزال غير واضحة، فإن وزارة الاستثمار السعودية تخطط لمنح حوافز وإعفاءات خاصة لدعم الشركات الملتزمة.
ويوضح جاناردان دالميا أن الشركات الناشئة التي ستنقل مقراتها إلى المملكة لن تفوز برضا الجهات التنظيمية فحسب، بل من المرجح أن تحصل أيضاً على دعم المستثمرين المحليين إذا أبدت رغبتها في ذلك وتفهمت المشهد الثقافي في المملكة. فيقول: "إننا نحصل على دعم كبير من المستثمرين لأننا لا نبدو كمجرد أشخاص لديهم فكرة ويريدون تنفيذها في المملكة العربية السعودية، بل أجرينا كثيراً من البحوث على أرض الواقع لفهم العمل ليس فقط كمفهوم ولكن أيضاً كنظام عملي، ونحاول حقاً أن نشعر بمواضع الشكوى وأن نعرف ما الفرق الذي يمكننا إحداثه".
وأوضح أن وضع تصور لشركة Trukkin استغرق عامين من التعلم الميداني مع التواصل المستمر مع شركات النقل القديمة "وتناول الشاي مع سائقي الشاحنات" حتى نتمكن من تقييم الاحتياج والتوصل إلى النموذج الصحيح.
وأضاف جاناردان: "إن أكثر من 90% من المساهمين سعوديون، ولذلك نقول إننا شركة سعودية. ولدينا أيضاً مكاتب عائلية [كمستثمرين]، ووجود كلاهما على جدول توزيع حصص الملكية أمر مفيد حقاً لأي شركة، إذ يُمكِّنك من بناء شركة من الألف إلى الياء من مكاتب الاستثمار العائلية إضافةً إلى الحصول على المساعدة في تحقيق النمو السريع والتوسع من شركات رؤوس الأموال الجريئة".
ويُعدّ العمل في قطاع "له أهمية محورية في رؤية 2030" أحد الأسباب الرئيسية للدعم القوي الذي يشير إليه جاناردان، ولكن يبدو أن الدعم الحكومي لريادة الأعمال على مستوى المملكة يجذب طائفة متنوعة من قطاعات الشركات الناشئة ويجذب كذلك رؤوس الأموال الأجنبية.
يقول نزار موسى: "أنا متفائل للغاية بشأن الفرص المتاحة في المملكة العربية السعودية، ما دامت أنها تستمر في النمو كما كانت في العامين الماضيين. ولا يزال يلزم تحديد معالم خطة 2024، فأعتقد أنه لا توجد تفاصيل كافية فيها، لكنها بوجه عام تتيح إمكانات ضخمة".