تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة (بلوكتشين): هل وجدت مكاناً لها في الاتجاهات السائدة؟
في خضم الضجة التي تُثار حول عملة بيتكوين وقيمتها المتزايدة، هناك تكنولوجيا أساسية عادةً ما تغيب عن البال - ألا وهي تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة (بلوكتشين). وهذه التكنولوجيا، ببساطة، هي تقنية الاحتفاظ بالسجلات التي تقوم عليها شبكة العملة المشفَّرة.
ورغم أن تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة ضرورية للعملات المشفَّرة، فإن استخدامها لا يقتصر على العملات، بل تكاد تُوصَف بأنها الحل السحري لكل مشكلة تقريباً في المعاملات. وقد سلطت الجائحة الضوء على الاستخدامات العديدة لتكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة، وبدأنا الآن في الشرق الأوسط نرى هذه التكنولوجيا تُستخدم على نطاق أكبر، لا سيما في حملات التطعيم.
وتعمل تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة من خلال الاحتفاظ بالمعلومات في سجلات يرتبط بعضها ببعض، وفقاً لما جاء في موقع إنفستوبيديا. وينبع الطابع الفريد لهذا النظام من استدامته، لأنه يضع تسلسلاً زمنياً للبيانات على نحو غير مركزي، ولا يمكن تغيير ذلك التسلسل. وعندما يُملأ أحد السجلات، فإنه يصبح جزءاً مختوماً بالتوقيت من هذا التسلسل الزمني الذي لا يمكن تغييره من جانب طرف واحد. وتتمتع تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة بالقدرة على إحداث تغيير شامل في طريقة ممارسة الأعمال التجارية، لأنها تكفل الشفافية (نظراً إلى طبيعتها اللامركزية) والتنظيم (لأن السجلات الجديدة تُحفَظ دائماً بشكل خطي وبتسلسل زمني) والأمن وإمكانية التتبع (فور إضافة السجل إلى نهاية سلسلة السجلات المغلقة، يصعب جدًا العودة وتغيير محتواه).
وتشير منصة Outlier Ventures إلى وجود حماس شديد لهذه التكنولوجيا لدى المستثمرين، فقد حصلت 3738 شركة من الشركات العاملة في مجال تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة على تمويل قدره 23.7 مليار دولار منذ عام 2013، بينما تشير تقديرات شركة Grand View Research إلى أن حجم السوق العالمية لهذه التكنولوجيا بلغ 3.67 مليار دولار في عام 2020. ومن المتوقع أن ينمو القطاع بمعدل سنوي مركب قدره 82.4% من عام 2021 إلى عام 2028 ليصل إلى 395 مليار دولار.
وما فتئت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي تشدد على إمكانات تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة، فحددت حكومة دبي 20 حالة استخدام لهذه التكنولوجيا التي تأمل أن تؤدي إلى زيادة الكفاءة بنسبة 30%. ورغم أن معظم هذا الدعم والحماس جاء من الحكومات، فإننا نرى القطاع الخاص في المنطقة الآن قد أخذ يتبنى سلسلة السجلات المغلقة.
وتتصدر هذا المشهد مجموعة ماجد الفطيم التي تمتلك الامتياز الحصري لإدارة وتشغيل سوبر ماركت كارفور في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، حيث قامت بالتعاون مع صندوق IBM Food Trust بدمج تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة في نظام التشغيل الخاص بها للسماح للعملاء بتتبع منشأ المواد الغذائية المعروضة في منافذ البيع بالتجزئة. ويُعدّ هذا المشروع المرة الأولى التي تُستخدم فيها سلسلة السجلات المغلقة لأداء دور يتطلب التعامل مع العملاء مباشرةً في الشرق الأوسط على هذا النطاق الواسع.
يقول هاني ويس، الرئيس التنفيذي لمجموعة ماجد الفطيم للتجزئة: "إن قطاع البيع بالتجزئة على مشارف ثورة ثقة، فقد أصبحت إمكانية تتبع المواد الأغذية توجهاً عالمياً يُمكِّن المستهلكين من رؤية الرحلة الكاملة التي مرت بها المواد الغذائية، خصوصاً بعد جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تسريع وتيرة هذا التأثير على مسائل السلامة والنظافة".
ويقوم المستخدمون بمسح رمز الاستجابة السريعة الموجود على المنتجات المشمولة للاطلاع على بيانات سلسلة الإمدادات الغذائية، بدايةً من المزرعة وصولاً إلى رف المتجر. وتكون سيرة المنتج متاحةً فور تحميلها على سلسلة السجلات المغلقة، بما في ذلك بيانات عملية الإنتاج، وشهادات الأغذية الحلال والنظافة، وتاريخ الميلاد، والمعلومات الغذائية، وبيانات درجة الحرارة.
ويرى هاني ويس أن رقمنة المعاملات والبيانات تزيد من كفاءة العمل عبر سلسلة الإمداد للمزارعين والمصنعين وشركات الشحن وتجار التجزئة والجهات التنظيمية والمستهلكين.
وتوصل استقصاء أجراه معهد IBM Institute for Business Value إلى أن 73% من المستهلكين أشاروا إلى أن إمكانية تتبع المنتجات أمر مهم لهم، وذكر 71% منهم أنهم على استعداد لدفع ثمن أكبر للشركات التي توفر إمكانية التتبع.
وفي الوقت الحالي، يستخدم كارفور تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة لتوفير إمكانية تتبُّع منتجات الدجاج وبراعم الخضرة الصغيرة (ميكروغرين)، التي تزرع بالزراعة المائية في متاجره، لكن تخطط الشركة لتوسيع نطاق هذه الخدمة لتشمل معظم منتجاتها في جميع منافذ البيع بالتجزئة في 16 سوقاً.
ويقول الرئيس التنفيذي لمجموعة ماجد الفطيم إن استخدام تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة له ميزة أخرى تتمثل في سهولة استدعاء منتج معين إذا ثبت انتهاء صلاحيته. وكان تفشي الأمراض المنقولة بالأغذية دافعاً لتطبيق تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة في صناعة الأغذية، ومن أمثلة تلك الأمراض الإشريكية القولونية، والتهاب الكبد A، والسالمونيلا، والليستيريا، ناهيك عن المواد الخطرة التي قد تدخل عن طريق الخطأ في عملية إنتاج الغذاء. وفي الماضي، كان الأمر يستغرق أسابيع، وربما شهوراً، لتتبع منشأ الأطعمة الملوثة، واستدعاء المنتجات، والتحقيق في أسباب تفشي المرض. أما باستخدام سلسلة السجلات المغلقة، فيستغرق الأمر بضع ساعات فقط لتحديد مصدر هذه المنتجات، وهو ما يمكن أن ينقذ حياة ملايين الناس، فضلاً عن إنقاذ سمعة العلامة التجارية.
يقول هاني ويس: "الشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به قبل تنفيذ سلسلة السجلات المغلقة هو التعاون مع موردينا وشركائنا واستدعاء المنتجات بأكملها من أرففنا ومستودعاتنا. وستساعدنا سلسلة السجلات المغلقة على استدعاء منتجات معينة بتاريخ محدد وببعض الشفرات الشريطية". وأضاف هاني أن هذه التكنولوجيا قد جعلت الشركة تتفادى إضاعة الوقت والمال للتعامل مع منتجات غير صالحة.
استخدامات على نطاق أوسع
مع التزايد المستمر لعدد الشركات التي تقبل عملة البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى لشراء السلع والخدمات، من المرجح أن يزداد أيضاً استخدام وفهم تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة. وإلى جانب زيادة الرقمنة بتحفيز من الجائحة، يمكن أن تلعب تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة دوراً قوياً في تطوير اقتصاد رقمي مستدام.
وبعيداً عن القطاع المالي، ستعمل تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة على تمكين الصناعات التي تتطلب الالتزام بمعايير جودة صارمة، مثل تصنيع السيارات والدفاع والطيران والرعاية الصحية، حسبما ذكر خورام شروف، رئيس مجلس إدارة مجموعة IBC. وستستفيد أيضاً العقارات والمستشفيات من ارتفاع معايير خدمة العملاء وتجاربهم، من خلال خفض التكاليف التشغيلية، وتحسين هوامش الربح، وتعزيز الأمن وإمكانية التحقق.
يقول خورام شروف: "ستصبح إدارة الهوية أسهل وأكثر أماناً. وسيكون من الممكن توظيف هذه التكنولوجيا في استخدامات متنوعة مثل شفافية الانتخابات والتحقق الفوري من الأخبار الشائعة. وستؤدي هذه التكنولوجيا إلى تعزيز جميع الوظائف التي يكون فيها الأمان وقابلية التحقق غير قابلين للنقاش".
ويرى وسيم المرعبي، الرئيس التنفيذي لشركة فيروفاكس التي تقدم خدمات تسلسل الأصول وتتبعها، أن تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة ضرورية في 9 من كل 10 حالات عندما يتعلق الأمر بإمكانية التتبع، مثل تتبع منشأ المنتجات أو التهرب الضريبي أو تحويل الأموال وغير ذلك، ولكنها ليست ضرورية لجميع الصناعات.
ويعتقد وسيم أنه لا غنى عن تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة في حالات مثل المعلومات الصحية والتبرع بالأعضاء، لأنها تساعد على حماية البيانات الخاصة لكل من المرضى والمتبرعين الذين قد يُستهدفون بسبب فصيلة دمهم النادرة أو أعضائهم، ويقول: "لا بد من تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة إذا كنت تريد الحفاظ على الخصوصية والالتزام باللائحة العامة لحماية البيانات".
وذكر وسيم: "لقد أنشأنا لحكومة دولة الإمارات نظاماً يسمح للأشخاص بتسجيل أنفسهم للتبرع بأعضائهم بعد وفاتهم. ويتولى هذا النظام تخصيص الأعضاء، وتحديد أولوية الحالات المحتاجة إلى هذه الأعضاء بناءً على مقاييس ومعايير معينة. ولذلك يمكننا أن نقول ببساطة إن تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة يمكن أن تنقذ الأرواح".
التحديات
على الرغم من فوائد تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة، فإنها تواجه تحديات عديدة، إذ تفتقر إلى توحيد المقاييس، وتتطلب قدرة حاسوبية هائلة، وتحتاج إلى قدر هائل من الكهرباء بسبب بطء سرعات المعاملات.
وعلى عكس بعض الأنظمة القديمة لمعالجة المعاملات القادرة على معالجة عشرات الآلاف من المعاملات في الثانية الواحدة، تستطيع سلسلة سجلات البيتكوين التعامل مع ما يتراوح من ثلاث إلى سبع معاملات فقط في الثانية الواحدة، حسبما جاء في تقرير صادر عن شركة ديلويت. أما سلسلة سجلات إيثريوم فتستطيع معالجة 15 معاملة فقط في الثانية.
ويوجد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أقل من 100 شركة ناشئة تعمل في مجال تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة، ويقع أكثر من نصف هذه الشركات في دولة الإمارات، وفقاً للبيانات الخاصة بشركة ومضة. كما أن 30% من جميع هذه الشركات الناشئة التي تأسست في المنطقة حتى الآن توقف نشاطها بسبب نقص الاستثمارات واحتياجات السوق. وهناك أيضاً التحدي المتمثل في نقص مستوى الوعي لدى المستهلكين.
يقول خورام شروف: "التحديات الرئيسية لتطبيق تقنية التشفير تدور حول مدى معرفة متخذي القرارات والمستهلكين بالإمكانيات التي تتيحها هذه التقنيات". ويرى وسيم المرعبي أن التثقيف أحد "المهام" الرئيسية التي يجب على شركات التكنولوجيا أن تضطلع بها لنشر مثل هذه التكنولوجيات، ولكنه لا يرى أن المستهلكين يجب أن يكونوا على دراية كاملة بالتكنولوجيا. فيقول وسيم: "التكنولوجيا نفسها غير ظاهرة للمستهلكين، فهم يقومون فقط بتنزيل تطبيق ما لتتبع المنتج الذي يستهلكونه".
ويتفق هاني ويس مع وسيم المرعبي ومع خورام شروف، فيقول: "عندما يتعلق الأمر بالأنظمة واستخدام التكنولوجيا، من الصعب دائماً تبني تكنولوجيا جديدة، ويستغرق الأمر وقتاً لتثقيف الجمهور وتوعيتهم بالفوائد الهائلة التي تتيحها هذه التكنولوجيا".
ولكن مع زيادة تقبُّل العملات المشفرة والوعي بها، من المحتمل أن يكون لذلك أثر غير مباشر على تكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة. كما أن جائحة فيروس كورونا قد حفزت استخدام هذه التكنولوجيا من جانب الحكومات الحريصة على تتبع وتعقب الذين تلقوا اللقاح. ويمكن لتكنولوجيا سلسلة السجلات المغلقة أن تسهل توصيل اللقاحات وتخزين البيانات الحيوية لضمان التوصيل الآمن للقاح وتوفير إمكانية التتبع والشفافية من أجل إصدار تصاريح تسمح بسفر الحاصلين على اللقاح.