مستقبل الشرق الأوسط ما بعد الجائحة
مع التخفيف التدريجي لإجراءات الإغلاق في خضم جائحة كوفيد-19، بدأ يظهر واقع جديد من شأنه إحداث تغييرات هائلة في المشهدين الاقتصادي والاجتماعي المستقبليين كما عهدناهما. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تصدت الحكومات للجائحة في البداية بحِزَم من الحوافز الاقتصادية، والآن بدأت تخطط بالفعل لمستقبل بلدانها فيما بعد الجائحة بعد إعادة فتح الحدود مرة أخرى ورفع حظر التجول.
وقد أدى التراجع الكبير في النشاط الاقتصادي، الذي كان ضرورياً لحماية الصحة العامة، إلى الإضرار بالرفاهية الاقتصادية للأفراد والمؤسسات، وأسفر عن تباطؤ العمليات التجارية. وإضافةً إلى بذل قصارى الجهود للتصدي للأزمة، تعكف الحكومات في جميع أنحاء العالم على وضع خطط التعافي لما بعد كوفيد-19، فتدرس وتُكيِّف مجموعة من التوجهات البعيدة المدى التي سرعت هذه الأزمة وتيرتها.
وقال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، رئيس مجلس الوزراء وحاكم إمارة دبي، خلال اجتماع إلكتروني عقده مجلس الوزراء الإماراتي لمناقشة استراتيجية ما بعد كوفيد-19: "إن واقع العمل سيتغير، وطريقة العمل لا بد أن تتغير. وعالم ما بعد فيروس كورونا يحتاج إلى استعدادات مختلفة. والاستعداد لعالم ما بعد فيروس كورونا هو استعداد لمستقبل جديد لم يكن أحد يتوقعه منذ بضعة أشهر فقط".
مستقبل رقمي
سيكون للابتكار الرقمي دور حاسم خلال فترة التعافي، فقد أدى مرض كوفيد-19 إلى تسريع وتيرة التحوُّل إلى التكنولوجيات الرقمية على نطاق هائل وبسرعة مذهلة في جميع القطاعات. وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، زاد استخدام الإنترنت أثناء الجائحة بنسبة 50% في بعض أنحاء العالم، مع انتقال المزيد من جوانب حياتنا اليومية إلى الإنترنت.
ومن المتوقع أن يكون لتكنولوجيات التشغيل الآلي والذكاء الرقمي والاصطناعي تأثير اقتصادي واجتماعي كبير. ومن المرجح أن تسهم هذه التكنولوجيات بنحو 60% في النمو المحتمل للإنتاجية على مستوى العالم بحلول عام 2030. ولا غرابة في أن حكومات عديدة قد وضعت، أو شرعت في تفعيل، استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، لأنها ستحتاج إلى زيادة إنتاجيتها بأكثر من الضعف للحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي.
كما أن الاتجاهات الاقتصادية العالمية في حقبة ما بعد كوفيد-19 ستؤدي إلى ظهور سلسلة إمدادات عالمية جديدة وأنماط تجارية جديدة. وسوف تؤدي أيضاً إلى تخصيص استثمارات ضخمة للبنية التحتية الرقمية، وشبكات الجيل الخامس، والمدن الذكية، والخدمات الذكية، والصحة، والتعليم، والتجارة. ولذلك أصبح إنشاء بيئات حاضنة مدعومة رقمياً أمراً بالغ الأهمية لأنها تحفز النمو وتساعد على التكيف السريع.
يقول عادل اليعقوبي، الرئيس التنفيذي للاستراتيجية في مؤسسة دبي للمستقبل: "العمل الرقمي هو المبدأ التصميمي الجديد لأي منظمة تريد أن تحرز تقدماً في مرحلة ما بعد الجائحة، ولا بد أن نكون رقميين في الأساس، لأن الرقمنة ستكون هي البنية التحتية الجديدة لتمكين الشركات في المستقبل. وسيكون المزج بين العالم المادي والعالم الرقمي أكثر وضوحاً. وأفضل الشركات والمؤسسات أداءً خلال هذه الأزمة هي التي كانت أكثر استعداداً من حيث البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات".
وكانت العديد من الشركات تعكف بالفعل على رقمنة عملياتها قبل تفشي فيروس كورونا، ومن خلال تسريع هذه الجهود، من المرجح أن تشهد هذه الشركات فوائد أكبر من حيث الإنتاجية والمرونة والجودة والاتصال بالعميل النهائي بعد جائحة كوفيد-19. إلا أن اعتماد التكنولوجيات الرقمية وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي سيتطلب أيضاً رفع مستوى المهارات لدى معظم العاملين أو إكسابهم مهارات جديدة.
تسريع الصناعات
لقد تضررت بعض القطاعات بشدة من هذه الأزمة، منها قطاعات السياحة والطيران والبيع بالتجزئة والعقارات، ولكن نمت قطاعات أخرى مثل التكنولوجيا وخدمات الإنترنت والترفيه الرقمي والتجارة الإلكترونية والبقالة الإلكترونية. وبينما يحاول كثيرون معالجة التباطؤ الشديد في عملياتهم، يسعى آخرون إلى تسريع عملياتهم لتلبية الطلب في مجالات حيوية تشمل المواد الغذائية واللوازم المنزلية والأدوية.
يقول ستيفن أندرسون، قائد فريق الأسواق والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط بشركة "بي دبليو سي": "هناك قطاعات مثل قطاع البناء والتشييد قد تستغرق وقتاً أطول للتعافي بسبب خفض الشركات والحكومات لاستثماراتها في تلك القطاعات، في حين أن هناك قطاعات مثل الرعاية الصحية والرقمنة وتجارة التجزئة عبر الإنترنت قد تستطيع الاستفادة من فرص نمو جديدة. ومن المرجح في خضم ذلك كله أن نشهد اقتصاداً تصبح فيه الشركات أكثر تركيزاً على تحديد أوجه الكفاءة، وخفض التكاليف، وتطبيق تكنولوجيات جديدة.".
ولكي تعود الشركات في جميع القطاعات أقوى مما كانت عليه، سوف يلزم أن تضع تصوراً جديداً لنموذجها التجاري عند عودتها إلى العمل بأقصى طاقتها. وقد عملت الشركات خلال الأزمة الحالية بشكل أسرع وأفضل مما كانت تظنه ممكناً قبل بضعة أشهر فقط. والحفاظ على هذا الشعور بالقدرة على الإنجاز سيكون مصدراً مهماً للميزة التنافسية.
طرق عمل جديدة
تعمل هذه الجائحة على تسريع وتيرة ابتكار طرق عمل جديدة. وفي استطلاع أجرته شركة "بي دبليو سي" للمدراء التنفيذيين الماليين، أشار أكثر من نصف كبار المسؤولين الماليين في الشرق الأوسط إلى أنهم سيتخذون خطوات لتحسين تجربة العمل عن بُعد، وسيتطلعون إلى جعل العمل عن بُعد خياراً دائماً، وذكر 50% منهم أنهم يخططون لتسريع وتيرة الأتمتة وابتكار طرق عمل جديدة.
يقول ستيفن أندرسون: "ستسعى المؤسسات إلى الحفاظ على بعض فوائد العمل عن بُعد (تحسين التفاعل، الاتصالات، أوجه الكفاءة) وستتطلع إلى تقليل وتيرة الحضور إلى مقر العمل في المستقبل. ولكن من الطريف أنه في أحد استطلاعاتنا الحديثة، ذكرت شركة واحدة فقط من بين كل 4 شركات في دولة الإمارات أنها ستتحول إلى العمل عن بُعد كخيار أكثر استدامة. فلا يزال هناك الكثير من العمل الذي يلزم القيام به في هذا الصدد".
وسوف يحتاج رؤساء الشركات إلى النظر في الأدوات والسلوكيات والحوافز التي ستُمكِّن الموظفين من أن يكونوا منتجين ومتعاونين ومبدعين. يقول كيفن سنيدر، الرئيس العالمي لمجموعة ماكينزي للاستشارات: "إن تبعات الجائحة سوف تتيح فرصةً للتعلم من عدد هائل من التجارب والابتكارات الاجتماعية، بدايةً من العمل من المنزل وصولاً إلى الإشراف الواسع النطاق. وسيكون ذلك مصحوباً بإدراك ما هي الابتكارات التي، إذا اعتُمدت بشكل دائم، قد تُحدِث تحسناً كبيراً في الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية - وما هي الابتكارات التي من شأنها أن تحول في النهاية دون تحسين أحوال المجتمع على نطاق أوسع، حتى لو كانت مفيدة في منع انتشار الفيروس أو الحد من انتشاره".
دور الشركات الناشئة
إن الحوافز الاقتصادية التي قدمتها الحكومات للتصدي لأزمة فيروس كورونا في شتى أنحاء العالم فاقت في حجمها ما قُدِّم عقب الأزمة المالية في عام 2008. يقول اليعقوبي: "لقد تعلمنا من الأزمات السابقة أن الإجراءات الحكومية السريعة والحزم الاقتصادية الكبيرة التي تُقدَّم هي الوصفة الرئيسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وقد رأينا الآن كيف أن سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة لم تنهر رغم الأزمة التي تعرضت لها، ويرجع ذلك إلى الإجراءات السريعة التي اتخذتها الحكومة لتخصيص الأموال وضخ سيولة كافية في المنظومة الاقتصادية، إضافةً إلى القطاع التكنولوجي الذي أنقذ السوق".
وسوف يعتمد التعافي الاقتصادي على النمو والابتكار والقدرة على التكيف مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي الجديد على المدى البعيد، من أجل إنشاء إطار اقتصادي أكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات المستقبلية. وفي إطار هذه الرؤية البعيدة المدى، يصبح للشركات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال دور حاسم في تعافي الاقتصاد من الجائحة.
لكن الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة في وضع شديد الصعوبة. وقد توصل أحد تقارير "ومضة" و"عرب نت" إلى أن إجراءات الإغلاق للحد من انتشار الفيروس وحالة انعدام اليقين الاقتصادي قد أثَّرت سلباً على 71% من الشركات الناشئة، منها 22% علقت أعمالها، و21% تشهد انخفاضاً كبيراً في الطلب مما يكبدها خسائر فادحة.
وتلقت صفقات تمويل المشروعات ضربةً موجعةً في الربع الأول في دولة الإمارات، حيث انخفضت بنسبة 33% مقارنةً بالعام الماضي، حسب بيانات شركة ماغنيت. وبسبب انخفاض الطلب اضطرت الشركات الناشئة إلى تسريح العمال، ولا يمتلك كثير منها الموارد المالية الكافية لاستمراره في هذا المناخ. وعلى الرغم من أن هذه الشركات لديها من الإمكانات ما يجعلها قاطرةً للاقتصاد والتوظيف بعد الأزمة، فإن الاستجابة الحكومية الفعالة في الوقت الراهن أمر بالغ الأهمية.
يقول أندرسون: "تمر الشركات الصغيرة والمتوسطة حالياً بوقت عصيب حقاً، ويتمثل أحد الأخطار التي تهدد دول مجلس التعاون الخليجي في أن السنوات التي قضتها في التنويع التدريجي للاقتصاد يمكن أن يتلاشى تأثيرها بسرعة بسبب جائحة كوفيد-19. فالشركات الصغيرة والمتوسطة هي شريان هذا التنوع الذي يسهم في التوظيف وخلق فرص العمل ونمو الاقتصاد في مختلف القطاعات. على سبيل المثال، تهيمن الشركات الصغيرة والمتوسطة على قطاعات تجارة الجملة وتجارة التجزئة والفنادق والمطاعم".
ويسهم قطاعا الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة مُجتمِعان بنسبة تصل إلى 40% في الناتج المحلي الإجمالي، وبنسبة تصل إلى 50% في توظيف العاملين بالقطاع الخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي. كما أن الشركات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال قادرون على خلق سوق عمل كبيرة ومتنوعة، وعلى التكيف مع البيئة الرقمية الجديدة الناتجة عن الجائحة. فإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى قطاعات الشركات الصغيرة والمتوسطة المزدهرة في المملكة العربية السعودية، مثل شركات التكنولوجيا المالية والعقارات والتجارة الإلكترونية، سنجد أنها ستنجح في تقديم خدماتها إلى المجتمع الرقمي فيما بعد الجائحة، مع الاعتماد على مجموعة كبيرة من أصحاب الكفاءات لشغل الوظائف المتاحة.
يقول اليعقوبي: "إن ديناميكية الاقتصاد تستند إلى المعرفة، وتأتي في صميمها الشركات التكنولوجية الناشئة والمؤسسات القائمة على الابتكار. وهذا أمر بالغ الأهمية من أجل النمو المستقبلي للمدن والاقتصادات".
وتحتاج الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى دعم شامل قائم على استراتيجية متسقة. وتدرك الحكومات أن هذه الشركات ستكون قاطرةً لا غنى عنها لتعافي الاقتصادي بعد الأزمة، وقد طبَّقت بالفعل حكومات كثيرة برامج للتصدي للجائحة، ولكن ضمان وصول المساعدات إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة وتحقيق هذه المساعدات للأثر المطلوب يحتاج إلى نهج أكثر مواءمةً مع ظروف كل بلد.
يقول نادر مصيطف، رئيس تطوير الأعمال والشراكات في Hub71: "لكي تنجح الشركات الناشئة لا بد أن تتوفر لها مجموعة من العوامل، بدايةً من البيئة الكلية للاقتصاد والمدينة التي توجد فيها الشركات الناشئة، وصولاً إلى الجانب الجزئي المتمثل في كيفية تصميم الشركة الناشئة وطريقة تكوين عروض منتجاتها".
ولمعالجة الاضطرابات الحالية، أعلنت الحكومات عن حزم تحفيزية غير مسبوقة، ولكن لم تُقدَّم حتى الآن حزم كافية مُصمَّمة خصيصاً لرواد الأعمال. ولا تزال فعالية الدعم الحكومي حتى الآن محدودة. يقول اليعقوبي: "تكمن المشكلة في أننا لسنا على يقين من أن الحزم التحفيزية، حتى لو كانت كميتها كبيرة جداً على المستوى الكلي، ستصل إلى الشركات الناشئة. ولذلك علينا أن نفكر في حزم تحفيزية مُوجَّهة مباشرةً إلى هذا القطاع المُحدَّد من الاقتصاد. ويمكن أن يكون ذلك في شكل طائفة أوسع من الحوافز، بدايةً من ضخ مبالغ نقدية، وصولاً إلى مخططات تعويض مع أصحاب رؤوس الأموال وتجميد بعض الرسوم الحكومية، بالإضافة إلى أخذ حسابات الشركة الناشئة التي تتمتع بمستوى معين من الواردات بعين الاعتبار عوضاً عن اعتماد حسابات المخاطر فقط، وذلك بهدف تسريع وتيرة دورة التمويل. ولا بد أيضاً للمشتريات الحكومية أن تُفضِّل الشركات الصغيرة والمتوسطة على غيرها، إذا كان ذلك مناسباً، لتمنحها بعض الأعمال".
وصدر عن مؤسسة دبي للمستقبل تقرير بعنوان "الحياة بعد كوفيد-19: الابتكار وريادة الأعمال" يقدم توصيات لدعم البيئة الحاضنة للابتكار في دولة الإمارات والمنطقة، وتشمل هذه التوصيات تخفيض أو تأجيل تكاليف المكاتب وفواتير المرافق ورسوم الترخيص، فضلاً عن تقديم منح مفتوحة ومنح قروض وتقديم تمويل مرن. ويشجع التقرير أيضاً على مفهوم تمويل الرواتب لفترة قصيرة، وخفض تكاليف المعيشة، وزيادة تنقل أصحاب المواهب ذوي المهارات العالية عبر البلدان والمناطق الحرة، ودعم العمالة المؤقتة كوسيلة لدعم قطاع الشركات الناشئة.
وقد ركَّزت الاستجابة الحكومية في المنطقة حتى الآن على دعم استمرار الشركات الأكبر والشركات الصغيرة والمتوسطة، ولكن ينبغي استكمال هذه الجهود بتشجيع ودعم ريادة الأعمال من أجل تعزيز إنشاء المشروعات في القطاعات ذات الأولوية بعد جائحة كوفيد-19، وزيادة عدد فرص العمل ذات الجودة العالية، وتحسين المرونة الاجتماعية والاقتصادية والقدرة التنافسية للاقتصاد الإقليمي.