أوجه التباين بين البيئات الحاضنة في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
عند دخولك فعالية "سلوش" أكبر فعالية للشركات الناشئة في أوروبا ستجد لافتة لتحية الزائرين بعنوان "اطرح فكرة شركتك الناشئة في المناطق التي لا تشرق فيها الشمس" وهو حتما ما يقصدون به مدينة هلسنكي في شهر نوفمبر حيث تسطع أشعة الشمس لمدة تقل عن سبع ساعات يومياً.
استضافت مدينة هلسنكي الضبابية عاصمة فنلندا خلال الأسبوع الماضي أكثر من 25000 شخصاً من مختلف أنحاء العالم متضمنة 4000 شركة ناشئة و2000 مستثمر في إطار فعالية "سلوش" التي أطلقها أحد الطلاب عام 2008 لتكون منصة للتوفيق بين مجتمع الشركات الناشئة داخل أوروبا.
وجاءت هذه الفعالية على نحو غير مسبوق بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وغلب عليها الطابع الترفيهي أكثر من أجواء المؤتمرات وشارك بها المستثمرون العالميون وقادة الاتحاد الأوروبي ورواد الأعمال لمناقشة مواضيع مثل الأنظمة واللوائح والفجوة في أسهم راس المال بين الجنسين والاستثمار في التقنية العالية.
وجاءت المحادثات أكثر تطوراً عن المحادثات المعتادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال فعاليات مماثلة وبالرغم من ذلك قد تندهش حين تجد أن أوروبا تعاني من ذات التحديات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنها:
نقص في التمويل
تأتي الولايات المتحدة الأمريكية وآسيا متصدرة على أوروبا التي شهدت نمواً في استثمارات رأس المال المخاطر. وحتى عامنا هذا، جمعت الشركات الأوروبية الناشئة نحو 34.3 مليار دولار، أي زيادة بواقع 40% عن عام 2018. وتأتي أكبر صفقة استثمار من شركة ديليفيرو التي مقرها المملكة المتحدة والتي نجحت في جمع 575 مليون دولار خلال شهر مايو/ أيار وشركة بابليون المتخصصة في التقنية الصحية التي جمعت 550 مليون دولار. وبالمقارنة، نجحت الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية في جمع 117 مليار دولار في حين تمكنت الشركات الآسيوية الناشئة من جمع 63 مليار دولار هذا العام. وفي غضون ذلك لم تتمكن الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تجاوز مبلغ مليار دولار الذي يُشكل علامة لاستثمار رأس المال المخاطر.
وتذكر هيلين كوبمان نائب رئيس وحدة الابتكار الرقمي والبلوكشين في المفوضية الأوروبية قائلة "ما زال هناك نقصاً في التمويل خاصة في طور النمو" وأضافت "نواجه مشكلة مع الشركات الناشئة الناجحة. فحين تصل هذه الشركات إلى مراحل محددة من النمو نجدهم يتوجهون إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو آسيا حيث يجدون سهولة في الوصول إلى رأس المال أو المهارات".
وفي سبيل تعزيز الوصول إلى رأس المال، أطلق الاتحاد الأوروبي صندوقاً بقيمة 100 مليار يورو مخصصاً للانفاق على مدار سبعة أعوام من بينه 10 مليارات يورو للشركات الناشئة في مجال التقنية العالية.
السوق المجزئة
رغم كون الاتحاد الأوروبي سوقاً تجارياً واحداً فعالاً، أسهمت اللغات والثقافات والبيئات التنظيمية المحلية المختلفة في خلق سوق مجزئة من شأنها فرض صعوبات أمام الشركات الناشئة الراغبة في النمو. وحسب كوبمان، ثمة تباين في البنى التحتية والنواتج المحلية الإجمالية للفرد والقدرات. لذا ينصب تركيز العديد من الشركات الناشئة على بلادهم والبلدان المجاورة ويتعذر عليهم النمو خارجها في حين تطمح الشركات الأخرى إلى مزاولة أنشطتها في وادي سيليكون أو الصين.
ونظراً لأن سوق الاتحاد الأوروبي اقل تجزئاً من منطقة الشرق الأوسط، إلا اننا سنحقق نتائج جيدة إذا ما تابعنا الاتحاد الأوروبي عن كثب. وبالرغم من ان العالم العربي تجمعه لغة واحدة الا أننا لا تجد فيه سوقاً مشتركة. وقد اتخذت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التدابير لتيسير تبادل السلع فيما بينهما ولكن تفتقر البلدان الأخرى لهذه المبادراتز وإذا أرادت الشركات الناشئة التوسع داخل المنطقة فعليهم إيجاد نشاط تجاري جديد في كل بلد جديد.
وأسهمت المساحات الجغرافية الشاسعة لهاتين المنطقتين في ظهور مراكز ريادة الأعمال في العديد من المدن لتعمل بصفة مستقلة كل على حدة.
ويقول رولف شرومجينز العضو المنتدب والمدير التنفيذي لشركة تريفاجو المتخصصة في مجال حجز الفنادق والسفر والتي تتخذ من ألمانيا مقراً لها "تكون المركزية مفيدة في المراحل الأولى ويكون جميع المستثمرين في مكان واحد ويتحدثون إلى بعضهم ا لبعض وتتجه جميع الأموال إلى المركز. ولكن تصبح المركزية مشكلة في المراحل المتقدمة نظرًا لندرة الموارد. فبإلغاء المركزية يصبح الولوج إلى مجمعات المواهب أمراً أكثر سهولة. ونقترب كثيراً من اللحظة التي يصبح فيه إلغاء المركزية مصدراً للقوة. حيث سيصبح لديك العديد من المراكز في أوروبا وتكون قد بلغت المرحلة المهمة التي شهدت تطور البيئات الحاضنة وتبادل الأفكار بين الأفراد".
وتتلخص النتائج الرئيسية للمناقشات في واقع أنه لا بأس من إلغاء المركزية لكن دون تجزئة.
ويعلق جين إيريك باكو المدير العام لوحدة البحث والابتكار في المفوضية الأوروبية بقوله "يمكنك النظر إلى أوروبا من خلال منظورين إما إنها مجزأة أو أنها متعددة الثقافات".
ومن شأن وجود العديد من المراكز التي يتميز كل منها في قطاع أو سوق متخصصة وفتح قنوات التواصل والتعاون مع المراكز الأخرى في المنطقة المساعدة في تطوير البيئة الحاضنة لريادة الأعمال بالشرق الأوسط عوضاً عن التنافس حول نفس المواهب ومجالات الأعمال. وتعلق كوبمان بأن الاتحاد الأوروبي لديه خططاً لربط البيئات الحاضنة لثلاث إلى أربع دول مختلفة وتشجيعهم على العمل معاً على مشاريع عابرة للحدود.
الوصول إلى المواهب
بالرغم من حرية التنقل المكفولة داخل الاتحاد الأوروبي الذي يتجاوز عدد سكانه 500 مليون نسمة، تعاني الشركات الناشئة في أوروبا من تعذر الوصول إلى المواهب ويتطلع المؤسسون إلى توظيف المهندسين وتحديداً من الخارج خاصة من دول مثل الهند ومصر والصين.
وألقى العديد من المتحدثين الضوء على بيئة العمل المتنوعة بوصفها إحدى ركائز الشركات الناشئة التي تطلع إلى النمو. ونجد أن نحو 80% من القوة العاملة لشركة تريفاجو من خارج ألمانيا وعلق على ذلك المدير التنفيذي شرومجينز أمام الحضور بقوله "يعد التنوع الثقافي إحدى أهم ركائز الشركات".
وأضاف قائلًا "لدينا شركة مقرها في ألمانيا ولديها القدرة على الوصول إلى جميع المواهب داخل الاتحاد الأوروبي ويكون الأمر أسهل كثيرًا عند التدويل. ويرجع نجاح تريفاجو إلى واقع أنه يعمل لدينا أفراداً من الاتحاد الأوروبي ممن لديهم القدرة على العمل داخل بلدان الاتحاد الأوروبي دون صعوبة ولكن نحتاج إلى سن قوانين أفضل للهجرة للذين هم من خارج الاتحاد الأوروبي".
ويمكن لدولة الإمارات العربية المتحدة التي تضم نحو 200 جنسية مختلفة أن توفر هذا التنوع بين جنباتها ولكن على غرار الدول الأخرى فهي تعاني من وفرة المواهب. ومن شأن تيسير متطلبات الهجرة والتأشيرات للشركات الناشئة السماح لها بتوظيف المطورين والفنيين من كافة أنحاء العالم على نحو يفيد البيئة الحاضنة بشكل واسع.
التقليد والابتكار
عادة ما يجري اتهام الشرق الأوسط بالافتقار إلى الابتكار ونزوع غالبية الشركات الناشئة إلى تقليد الأفكار أو نماذج الأعمال الموجودة في مكان آخر. كما تعاني أوروبا من التقليد حيث تُتهم الشركات الناشئة بتقليد الأعمال القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية أو الصين ثم السعي إلى تطويعها بإضفاء الطابع المحلي عليها لتلائم الأسواق المحلية. فالعديد من شركات دراجات السكوتر والبرمجيات كخدمة التي تعمل لتسويق الشركات الناشئة وتطبيقات الصحة النفسية تحاكي نماذج أعمال أخرى موجودة في العالم.
وبالرغم من ذلك، كانت العبارات الطنانة المستخدمة في فعالية "سلوش" هي الابتكار والاستدامة ونادراً ما تجري الإشارة إلى "شركات اليونيكورن" (وهي الشركات الناشئة التي تخطت قيمتها مليار دولار) حيث جرى التأكيد على تمكين الابتكارات على نحو يُسهم في تحسين حياة البشرية والأرض بصفة عامة عوضاً عن التركيز على المستثمرين والأرباح. وجاءت الابتكارات ملموسة وخاصة في مجال التقنية العالية والتقنيات الصحية. وتتميز أوروبا في مجال البحث والتطوير وذلك في ظل الوجود الجوهري للشركات الناشئة التي بدأت رحلتها من أروقة مختبرات الجامعات بما في ذلك شركة جلوكوموديكوم التي طرحت ساعة ذكية لمراقبة نسبة السكر في الدم دون وخز وموقع "spexel.ai" للتصوير الطيفي بالهاتف الذي يستعين بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتمكين كاميرات الهواتف الذكية من التقاط الطيف التفصيلي للضوء لتحديد الحجم المتوقع للمحاصيل الزراعية أو مدى نضج الثمار. ولكن ما هذه الشركات الناشئة إلا غيض من فيض في حين يغلب على الشركات الأخرى طابع التقليد.
ويعلق شرومجينز بقوله "أمامنا رحلة طويلة ونحتاج إلى مزيد من الحالات الناجحة. فأن تصبح رائداً للأعمال في ألمانيا ليس بالأمر اليسير فالفشل وعدم الكمال هما أسوء سمة يمكن أن تتصف بها في ألمانيا. وبالرغم من أن الكمال في الهندسة أمر مهم، فهناك جانب سلبي في الأمر. نحن نكافح لنحظى بفرصة للمجازفة. نحن نكتسب الخبرة بالمجازفة وعلينا ان ندرك بأن الفشل ليس سيئاً وإنما هو جزء من عملية الابتكار".
وبوجه عام، يتضح مما سبق أن البيئات الحاضنة في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تواجه مشاكل مشابهة ولكن أمام البيئة الحاضنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رحلة طويلة للوصول إلى حل. وفي ضوء المزيد من التعاون بين أصحاب المصالح في الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتجارة الحرة وضخ المزيد من الاستثمارات يمكننا تحسين البيئة الحاضنة للشركات الناشئة.