ما هو دور الشركات الناشئة في معالجة البطالة في المنطقة؟
سبق نَشرُ هذا المقال في "نولدج آت وارتون "Knowledge@Wharton، وهذه نسخة محرَّرة منه ومعرّبة.
تشكّل التصوّرات المسبقة عن الرواتب والمستقبل المهني في الشركات الناشئة حواجز إضافية أمام روّاد الأعمال والباحثين عن الوظائف على حدٍّ سواء، بحسب دراسة جديدة أجراها "مختبر ومضة للأبحاث" بعنوان الوصول إلى المهارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكشفت الدراسة أن نسبةً كبيرة من أفراد القوى العاملة في المنطقة يعتبرون العمل لصالح شركة ناشئة خطوةً مهنية صائبة إلاّ أن نسبةً قليلة منهم فقط مستعدّون فعليّاً لاستلام وظيفة في إحداها.
ويصف بيتر كابيلي وهو بروفسور في إدارة الأعمال ومدير مركز الموارد البشرية في جامعة وارتون، هذه الدراسة بالمهمّة "لأنها تكشف أخيراً عمّا يواجهه أرباب العمل في منطقة الشرق الأوسط، إذ لطالما تساءلنا عن واقع الأمور في تلك المنطقة."
وتتحدّث "نولدج آت وارتون" عن هذه التحديات مع محرّرَي الدراسة جميل واين وطيب عساف، ومع كريستوفر شرودر وهو رائد أعمال ومستثمر ومؤلف كتاب Startup Rising: The Entrepreneurial Revolution Remaking the Middle East، وكذلك مع فادي غندور وهو شريك مؤسس في "أرامكس" Aramex ورئيس "ومضة كابيتال" Wamda Capital، بالإضافة إلى مشعل حامد كانو وهو رئيس "مجموعة كانو" The Kanoo Group التي تعتبر إحدى أكبر وأقدم مجموعات الشركات العائلية في منطقة الخليج.
نولدج آت وارتون: ما هي أبرز النقاط التي سلّطت الدراسة الضوء عليها وهل من حقائق مفاجئة فيها؟
جميل واين وطيب عسّاف: بيّنت نتائج المسح الذي أجريناه أن روّاد الأعمال جميعهم تقريباً يعتزمون توظيف المزيد من الأفراد في المستقبل القريب. وبالنظر إلى صعوبات الوصول إلى المهارات في المنطقة العربية، وإلى مجموعة الثغرات في المهارات التي أشار إليها روّاد الأعمال في المسح، فإن إصرارهم رغم كل شيء على التوظيف، أمر إيجابي. يكشف هذا الواقع أيضاً حاجةً إلى تطوير مقاربة البطالة في المنطقة، فنحن غالباً ما نميل إلى التحدث عن أهمية استحداث الوظائف، من دون أن نفكّر بأهمية إشغال هذه الوظائف، والتأكّد من رغبة الموظفين المحتملين فعليّاً في العمل لصالح شركة ناشئة. لذا ينبغي على روّاد الأعمال التركيز، ليس على إيجاد المزيد من فرص العمل فحسب إنما أيضاً على التأكد من أن الفوائد التي يقدّمونها تتوافق مع الفوائد التي تتطلّع إليها القوى العاملة.
علاوة على ذلك، تواجه الشركات الناشئة منافسة كبيرة على أصحاب المهارات من الشركات الكبرى والحكومة. فبحسب نتائج المسح، يفضل 64% من القوى العاملة العمل في شركات كبرى على الشركات الناشئة، بينما يفضّل 41% منهم الوظائف الحكومية. وبالنظر إلى الطلب المتزايد على الوظائف وعجز الحكومة عن تلبيته، كان يمكن للشركات الناشئة سدّ هذه الثغرة من خلال استيعاب قسم من الباحثين عن عمل. إلاّ أن البيانات تظهر بأنّ ذلك لم يتحقق حتى الآن.
بموازاة ذلك، وعلى الرغم من أنه يمكن إعادة الصعوبة في العثور على أصحاب المهارات، إلى التحديات التربوية في المنطقة، إلا أن جزءاً من المسؤولية يقع على عاتق روّاد الأعمال أيضاً. فقدرة هؤلاء على تحديد المهارات أو الخبرة المناسبة والشخصية الملائمة لكل وظيفة هي إحدى المشاكل الثلاثة الأبرز التي تعانيها المنطقة في مسألة توظيف المهارات. وبصرف النظر عن نوعية ومستوى المهارات الموجودة، ينبغي على روّاد الأعمال إتقان كيفية رصدها وتطويرها.
كريستوفر شرودر: بيّنت هذه الدراسة قدرة الشركات الناشئة على إيجاد فرص عمل وتفعيل الدورة الاقتصادية، كما سلّطت الضوء أيضاً على البطء في التطبيق وصعوبات إيجاد المهارات المناسبة. ولكن هذا ليس أمراً مفاجئاً، فالواقع يشير إلى أن إيجاد مهارات بمستويات عالمية والمحافظة عليها هي مشكلة تعاني منها حتى أكبر مراكز ريادة الأعمال في الولايات المتحدة الأميركية ومن بينها وادي السيليكون.
فالمطلوب من الشركات ليس فقط البحث عن المهارات بل إنشاء ودعم برامج مخصّصة لتطوير المهارات التي هي بحاجة إليها.
فادي غندور: كشفت الدراسة عن شرخ بين أنواع الوظائف التي تُوجِدها الشركات الناشئة وتلك التي تتطلّع القوى العاملة إليها. إذ يحرص روّاد الأعمال بالدرجة الأولى على تكريس ثقافة تحفيز الابتكار في بيئة العمل (62% من الشركات الناشئة تعتمد المرونة في ساعات العمل، و60% توفّر فرصاً للابتكار)، فيما يفضّل 64% من القوى العاملة العمل لدى شركات قائمة تقدّم الضمانات المعتادة.
ومن المدهش، أن أكثر من نصف روّاد الأعمال راضون عن عدد أفراد القوى العاملة المحلية على الرغم من استمرارهم في إلقاء اللوم على الأنظمة التعليمية في المنطقة كأحد أسباب صعوبة إيجاد المهارات. وتبيّن الأبحاث التي أجريناها أن معظم روّاد الأعمال يتجهون بالإجمال إلى العمالة المحلية (بنسبة تتعدّى 80% باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة) وأن نسبة 60% منهم راضون عن التوظيفات التي أجروها.
مشعل حامد كانو: إن تحديد كم من مليون شاب عربي ينبغي توظيفهم بحلول عام معيّن هو مقاربة خاطئة لحلّ مسألة البطالة في المنطقة. فبعض القضايا التي تنجح الدول المتطورة في إخفائها، ما زالت ظاهرة وواضحة في الدول العربية، من بينها القبلية والدين ولون البشرة. وهذه العوامل تشكّل جزءاً من الأسباب الرئيسة التي تحول دون توظيف بعض الأشخاص في هذه الدول وليس ضعف المهارات. فبإمكاني تعليم مهارة ما ولكن لا يمكنني تغيير القبيلة التي أنتمي إليها ولا لون بشرتي. لذلك فإن العدد المطروح للوظائف التي يجب إيجادها مبالغ به ولا يمكن حل المشكلة عبر إيجاد وظائف جديدة بل عبر إحداث تغيير اجتماعي شامل.
نولدخ آت وارتن: ما هو واقع أسواق العمل بالنسبة إلى الشركات الناشئة وروّاد الأعمال في المنطقة حاليّاً وكيف تتطوّر؟
واين وعسّاف: تعرف الشركات الناشئة في المنطقة جوّاً متنامياً من الحماسة والدعم. فعدد المؤسسات الداعمة لروّاد الأعمال سواء إقليمية أم أجنبية في ارتفاع. ومن هذا المنطلق، بدأ الأفراد يؤمنون أكثر فأكثر بريادة الأعمال ويرَون الوظائف في الشركات الناشئة، فرصة مهنيّة ثابتة. وهذا التقدم الإيجابي هو إشارة إلى ارتفاع عدد الشركات الناشئة في أسواق العمل.
بدأ روّاد الأعمال في المنطقة يغيّرون المواصفات "المرغوب بها" للتوظيف. فتقليديّاً كانت الشركات والحكومات تفضّل توظيف المتخرجين من جامعات معيّنة والذين اتّبعوا مساراً وظيفيّاً تقليديّاً وشغلوا مناصب في مؤسسات معروفة وناجحة. ولكننا نرى مؤخراً ميلاً لدى روّاد الأعمال إلى توظيف أفراد متخصصين في مجالات ومهارات معيّنة تناسب ثقافة الشركة، من دون إيلاء اهتمام كبير لتاريخهم الوظيفي السابق.
نولدج آت وارتن: هل تتشابه أنماط التوظيف وتحدّياته بين الشركات الناشئة عالميّاً؟ وكيف تصفون وضع المنطقة العربية مقارنةً بها؟
واين وعسّاف: إن تحقيق تقدّم ونمو الشركات الناشئة حول العالم مرتبط مباشرة بالمهارات، لذا فإن تحديات إيجادها هي ذات طابع عالمي، ظاهرياً على الأقل. فمن المعروف عالميّاً أن توظيف المهارات هو أحد أكبر التحديات في عملية بناء فرق عمل. لا شك في أن هذه المشكلة تتفاقم في المنطقة العربية حيث ما زالت البيئة الحاضنة غير ناضجة نسبيّاً ولم تبلغ الأنباء عن شرعيّة الشركات الناشئة ومصداقيّتها، كافة القاعدة السكانية بعد. فالعمل لصالح شركة ناشئة ليس شائعاً ولا مغرياً في المنطقة كما هو في سائر أنحاء العالم. هذه العوامل وغيرها تزيد من الصعوبات التي تواجهها الشركات الناشئة في إيجاد المهارات وجذبها وتطويرها في المنطقة.
شرودر: تتشابه تحديات الوصول إلى المهارات في كافة أنحاء العالم. فنجد أنه حتى في المناطق الأنجح مثل آسيا الزاخرة بالمهارات العظيمة، ما زال التركيز الأكبر ينصبّ على التعلّم بالحفظ وتنفيذ العمليات. إنما هذا الواقع يتغيّر حاليّاً.
أما في الشرق الأوسط، فثمة فرصة تاريخية للمؤسسات التي تتّبع النهج الإداري من القمة حتى القاعدة وهي الاستفادة من القاعدة السكانية الشبابية الصاعدة. فأصحاب المهارات يفضّلون البقاء في بلدهم والتأسيس فيه ولكن شرط أن يكونوا قادرين على النجاح. وهناك نماذج على ذلك نأمل أن تتبنّاها الأجيال الجديدة من قادة الأعمال.
غندور: ترتبط أنماط التوظيف وتحدّياته عالميّاً بتوافر المهارات. فالصعوبات التي تواجه الشركات الناشئة أو الصغيرة للوصول إلى المهارات والتنافس مع الشركات الكبرى والناجحة هو اتجاه عالمي غير محصور في منطقة معيّنة. يُضاف إلى ذلك أن بيئة ريادة الأعمال في المنطقة العربية ما زالت حديثة العهد، وقصص نجاح الشركات الناشئة وصفقات بيعها ما زالت جديدة وقليلة، لذا تحتاج المنطقة إلى المزيد من قصص النجاح لإقناع القوى العاملة بثبات وموثوقية الوظائف في الشركات الناشئة.
كانو: يتغيّر العالم بوتيرة أسرع من المنطقة العربية لأن بإمكانه الشعور بالضغط العالمي، على عكسنا. إلا أن هذا الواقع سيتغيّر مع تراجع أهمية النفط في العالم ومع تباطؤ التدفّق النقدي الحرّ في الأسواق.
نولدج آت وارتن: إذا اعتبرنا أن أسعار النفط ستحافظ بالمجمل على قيمتها الحالية، ما هي الخطوات التي يجب أن تقوم بها المنطقة العربية في الأعوام الخمسة أو العشرة المقبلة لتحسين أنماط التوظيف؟
واين وعسّاف: ترتبط أنماط التوظيف بنوعية التعليم في المنطقة ومدى تزوّد الشباب بالمهارات المطلوبة لدخول سوق العمل. كما تتأثّر بمدى تشجيع المجتمع بالإجمال للأفراد الذين يؤسّسون الأعمال بمن فيهم الشباب. ويضطلع حجم القطاع الخاص ونشاطه وإنتاجيّته كذلك بدورٍ أساسي إذ يعتمد هو أيضاً وبشكلٍ كبير على المهارات سواء من القوى العاملة أو روّاد الأعمال. وبالتالي تحتاج المنطقة إلى إصلاح تربوي شامل وإلى تطوير القطاع الخاص في آنٍ معاً.
من ناحية أخرى، يشهد مجال المهارات الرقمية ومعرفة التكنولوجيا المتطورة، تقدّماً سريعاً. ولا تؤدي الشركات الناشئة دوراً بارزاً في تطوير تكنولوجيات جديدة فحسب إنما مهارات جديدة أيضاً تستطيع فعلياً تطوير هذه التكنولوجيات وبيعها. تحتاج المنطقة العربية أن تلتحق بوتيرة التقدم هذه. فإذا كانت الثغرات في المهارات المذكورة في التقرير تعيق في الوقت الحاضر عملية التوظيف أمام روّاد الأعمال، سوف تحتاج المنطقة إلى تحسينات جدّية على هذا المستوى ويمكنها الاعتماد على الشركات الناشئة في هذا الشأن.
شرودر: أعتقد أن التغيير يتمّ بصورة تلقائية، فالأجيال الجديدة تأبى العمل في شركات تعتمد دوام "التاسعة حتى الخامسة" التقليدي، وفي ظل نماذج بيروقراطية بطيئة وفي أماكن تعتبر "الواسطة" ميزة تنافسية. لذلك أعتقد أن النجاح سيؤدي حتماً إلى نجاحاتٍ أخرى.
غندور: ينبغي على الحكومات الإسراع في دعم البيئة المحفّزة لريادة الأعمال من أجل تشجيع الجيل المقبل والأجيال اللاحقة إما على تأسيس شركاتهم الخاصة أو إدراك أهمية العمل لصالح القطاع الخاص بما فيه الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. وهذه مهمّة ضخمة تنطلق من مراحل التعليم المبكرة، وتستلزم تغيير القوانين، وتعديل البنية التحتية، وأساليب التمويل وغيرها. وهي تقتضي مشاركة كافة عناصر المجتمع ومساهمة الجميع في تنفيذها.
كانو: ينبغي أن تولي الحكومات الأهمية الأكبر للنظام التعليمي، وأن تغيّر نماذج تعليم الأطفال بحيث لا يكون الهدف من التعليم الحصول على شهادة في نهاية المرحلة التعليمية وحسب، إنّما التحفيز على ابتكار الأعمال والخروج عن دائرة المألوف. لا بدّ كذلك من مقاربة الفشل على أنّه فرصة للتعلّم وليس عاراً.
الصورة الرئيسية من "بيكسيلز".