لمَ نحتاج إلى تعليم أفضل للفنون في المنطقة العربية؟
كتبت ميساء جلبوط في مقالتها الأخيرة تحت عنوان "تعليم الفنون في المنطقة العربية يحتاج إلى المزيد من الاحترام ـ والموارد" "إذا استمرت المنطقة العربية في التقليل من قيمة تعليم الفنون، فهي تخاطر في التراجع كثيراً وراء الدول المتطورة في تحضير الطلاب لاقتصاد المعرفة".
لنستند على ذلك. فقد كانت مسألة أهمية الفنون محور البحث الاستقصائي لدانييل بينك في كتابه "ذهن جديد بالكامل" (A Whole New Mind) حيث ناقش بأن هذا الزمن يحتاج إلى مجموعة جديدة بالكامل من المهارات - التي نظرت إليها مجتمعاتنا المنحازة إلى اختصاصات مثل القانون والطب والهندسة - بازدراء واعتبرتها "مضيعة للوقت".
غير أنه بحسب البحث الذي أجراه بينك، فإن "ماجستير الفنون الجميلة هو الماجستير الجديد في إدارة الأعمال" والمستقبل يخص الأفراد الذين يتمتعون بـ"قدرات عالية الأداء والجودة" تجمع التصميم والقصة والسمفونية والعاطفة والمرح والمعنى. ويقول "هذه الحواس الستة ستقود حياتنا بشكل متزايد وسترسم شكل العالم".
في الواقع، لدى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تاريخ طويل من الأمثلة عن "الحواس الستة". ونرى أدلة على ذلك حتى الآن في الفن الإسلامي الذي لا يغطي الأماكن والساحات المقدسة من اسبانيا حتى الصين فحسب، بل حتى الأشياء التي نستعملها كل يوم مثل علب الأقلام والأواني المزينة بكتابات وزخرفات للسماح لحاملها بـ"اختراق حجاب الوجود المادي"، كما يقول السيد حسين نصر. هذه الشخصنة للأشياء والعلاقة السامية والروحية التي يقيمها الناس مع المقدس والدنيوي، حددت مرة شخصية المنطقة ونظرة سكانها إلى العالم.
ويعترف بينك بأن "هذه القدرات لطالما تضمنت جزءاً مما يعنيه أن تكون إنساناً. ولكن بعد أجيال عدّة في عصر المعلوماتية، بدأت هذه القدرات بالضمور. والتحدي الآن هو إعادة تنميتها". وهنا لا نتحدث ببساطة عن المهارات التقنية المطلوبة لإجراء فن سريع "يحصد شهرة لمدة 15 دقيقة". فقد كتب ريك وليامز وجوليان نيوتن في "فيجوال كومونيكايشن" (Visual Communication): "لتصبح شخصاً متعلماً في القرن الواحد والعشرين لا تحتاج فقط إلى مهارات في الكلام والرياضيات بل أيضاً إلى مهارات التفسير والانتقاد والإبداع واستخدام التواصل المرئي على مستويات متطورة".
إن مهاراتنا الطبيعية ـ قدراتنا الثقافية ـ هي التي ضمرت ولم يصف أحد حالتنا الحالية أفضل من بيبان كيدرون الذي أسف لأن "الوصول إلى التقنية لم يكن يوماً أفضل من اليوم، أما الوصول إلى الثقافة فلم يكن يوماً أضعف من اليوم".
في المنطقة العربية بشكل خاص وفي العالم بشكل عام، غالباً ما يكون تعليم الفنون تقنياً وغير خلاّق بشكل محرج. وأحياناً يبدو الأمر وكأننا نقوم بتدريب تقنيين لا فنانين. وكتب وليامز ونيوتن إن "تحديد عملياتنا التعليمية وتعبيرنا الثقافي بتقنيات عقلانية مستقيمة يخلق تحيزاً عقلانياً وبذلك نجرّد ثقافتنا وأنفسنا من التطوير الشامل لذكائنا الطبيعي، وقدرتنا على تجاوز التقنية الأساسية والتعبير عن أنفسنا ببراعة خلاقة وجمالية عبر الرسم وأي نشاطات حل مشاكل أخرى تتطلب تفكيراً خلاقاً".
هناك مشكلة أخرى وهي أن ما لدينا الآن هي أشكال من دون معنى، هيئات من دون فهم والكثير من الكلمات التقنية التي لا قيمة لها. وتستبدل العبقرية الفنية التي ارتبطت مرة بالديناميكية، بالشكل والمعنى، بفن "حيث الإحساس وليس القصة، هو الأهم"، كما يكتب كيدرون.
خذوا مثالاً على ذلك الزخرفة العربية (أرابيسك)، التي "عبر تمديد وتكرار الأشكال المتداخلة مع الفراغ، تبعد عن العين إمكانية التركيز في مكان واحد وعن العقل إمكانية أن يصبح أسير أي تصلّب أو تبلور للمسألة"، يكتب نصر في كتابه "الفن الإسلامي والروحانية". وتكرار الأقواس والأعمدة في المساجد والساحات يرمز إلى إيقاعات الحياة ويعكس مراحل رحلة الإنسان، في حين أن النوافير في الفناء تلعب دور مكيفات الهواء الطبيعية، والصوت العذب للمياه المتدفقة، يذكرنا بكيف ينبغي أن تبدو عليه رحلتنا الفكرية والروحية: دائما في حركة لطيفة وتجديد ذاتي، ودائماً واهبة للحياة. ويمكن إجراء الملاحظات ذاتها حول الموسيقى التقليدية والشعر.
نميل جميعاً إلى أن ننسب نجاحات ما يسمّى بـ "العصر الذهبي الإسلامي" إلى أماكن مثل بيت الحكمة والعلماء العظماء الذين جابوا الدنيا وغيّروا العالم بفضل انفتاحهم واختراعاتهم، ومن دون شك أدوا جميعاً دوراً أساسياً في "دفع السلالة البشرية إلى الأمام". ولكن مجدداً، يظهِر هذا انحيازنا العقلاني وتقليلنا من قيمة الدور "النفسي" الذي لعبه الفن والهندسة المعمارية في توليد بيئات صحية ومنوعة وإنسانية بعمق، خرجت منها معظم أشهر الاكتشافات والابتكارات في العالم.
وفي حين أنه من الضروري التركيز على تعليم الفنون بشكل عام من أجل صقل نظرنا الداخلي وتنمية ثقافتنا وتطوير مهاراتنا الطبيعية، من الضروري بالقدر ذاته أن نعلّم تاريخ فنوننا الأصلية وفلسفتها ومعناها الداخلي (وغيرها من الأشكال الفنية أيضاً). وهذه خطوة أساسية من أجل أن نكون مالكي ثقافاتنا. فمن دون تركيز معمق ومستمر على المعنى دون المادة الجميلة، نصبح عرضة للاستعمار الفكري والتقليد الأعمى.
في المقالة المقبلة سنناقش "كيف" نعلّم الفنون.